بعد محاورة عدد من المشاركين في الحلقة الأولى، ينشر “أساس” الورقة البحثيّة التي أعدّها “مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية”، وهذه الحلقة الثانية من سلسلة بدأناها يوم أمس بمقال للزميل عماد الشدياق بعنوان “مرصد AUB: الانهيار الكامل.. قاب “أسبوعين” أو أدنى (1/4)”، ونستكملها غداً في الحلقة الثالثة، وبعد غد في الحلقة الرابعة، وقراءة تحليلية في الحلقة الخامسة للزميل عبادة اللدن.
وتتنبّأ الورقة البحثية بمزيد من التأزّم في المرحلة المقبلة في لبنان خلال النصف المتبقّي من العام الجاري، وما بعده.
ورقة بُنيت على نقاشات شارك فيها الأساتذة: طارق متري، أنطوان حداد، ناصر ياسين، زياد عبد الصمد، حسين إسماعيل، مصطفى سعيد، خليل جبارة، ليندا مطر، وندى عباس.
لا يأتي توصيف المرحلة الحالية، التي يمرّ بها لبنان، بأنّها الأسوأ في تاريخه الحديث، من عدمٍ، خصوصاً عند رصد مؤشّراتها، وتتبّع منحى تطوّرها، وما قد تؤول إليه سوءاً، فيما القوى السياسية تقارب الأزمات المُتتالية بتبادل الاتهامات وتراشق المسؤوليّات. مع انتهاء الربع الأوّل من عام 2021، تبرز صعوبة بالغة في تحديد مدى تفاقم هذه الأزمات أو القعر الذي قد ترقد فيه، وإن كانت وجهتها معروفة، وتحديدها مُمكناً، من خلال معاينة الواقع وقراءته انطلاقاً من الأرقام المُتاحة والوقائع الماثلة، أي عبر امتلاك أدوات القياس الأكثر علمية في محاولة لتأطير هذه الأزمات وفقاً للحجم والنطاق المُحتمل بلوغهما، والفئات التي قد تتأثّر بها.
يعيش لبنان منذ أكثر من سنة تداعيات انهيار النظام السياسي – الاقتصادي الذي رُسِّي منذ نهاية الحرب الأهلية، وتكشّف بدايةً بإفلاس القطاع المالي وانهيار سعر الصرف، وما تبعهما من انهيارات مُتتالية جارفة تُهدّد المجتمع ببقائه، يُجمع كثيرون أنّها شبيهة بالأوضاع التي سبقت اندلاع الحرب في عام 1975، لا بل أصعب وأشدّ خطورة منها.
لم تأتِ هذه الأزمة التي تكشّفت في نهاية عام 2019 وليدة صدفة، بل نتاج سياسات اتُّبعت على مدار العقود الماضية، وراكمت حجماً هائلاً من الخسائر المالية على شكل ودائع مصرفية، وخسائر اقتصادية تمثّلت بضحالة القاعدة الإنتاجية وعدم وجود تراكم رأسمالي حقيقي، والأهمّ خسائر بشرية يُعبّر عنها بهجرة نحو 844 ألف شابٍ وشابّة منذ نهاية الحرب بحثاً عن فرص عمل في الخارج. وترافق ذلك مع اهتراء الدولة وتفكّكها بما حال دون قيامها بوظائفها المُفترضة في توفير رفاهية المجتمع واستقراره خدمة لمصالح راسخة تعزّزت منافعها وفقاً لمنطق الربح السهل والسريع، وهو ما ساهم في نقل الثروة من الأكثريّة إلى قلّة. وقد اتّسمت الدولة اللبنانية على مدار عقود بعدم انتظام عمل المؤسّسات وإضعافها، وتجذير سياسة اللاقرار والنزعة الدائمة لتأجيل الاستحقاقات على أنواعها بما فيها القانونية والدستورية والانتخابية، بالإضافة إلى تكريس قاعدة تغييب المساءلة والإفلات من العقاب.
لا يأتي توصيف المرحلة الحالية، التي يمرّ بها لبنان، بأنّها الأسوأ في تاريخه الحديث، من عدمٍ، خصوصاً عند رصد مؤشّراتها، وتتبّع منحى تطوّرها، وما قد تؤول إليه سوءاً، فيما القوى السياسية تقارب الأزمات المُتتالية بتبادل الاتهامات وتراشق المسؤوليّات
في الواقع، عاش هذا النظام على مراكمة عنصرين: الودائع والمهاجرين، من دون القيام بأيّ جهد أو مسعى لبناء اقتصاد مُنتج يوفّر حاجات المجتمع، أو تطوير أيّ قطاع وتحسينه، أو حتّى توفير الخدمات العامّة الأساسية من طبابة وتعليم وسكن ونقل مشترك. وأمام الخلل الذي أصاب استدامة التراكم في العنصر الأول، أو ما عُرِف بأزمة شحّ الدولارات، انهار النظام، ودخل لبنان في أزمة هي الأكبر في تاريخه، تهدّد مجتمعه بالتبدّد نتيجة ارتفاع مستويات الفقر والهجرة المتوقّعة، فيما موارده مستنفدة، سواء رأس المال المالي المُمكن توظيفه في استثمارات مُنتجة، أو رأس المال البشري المُمكن استخدامه في العمل والإنتاج لتطوير الاقتصاد وبناء قاعدة إنتاجية. وأكثر من ذلك تعيش البلاد في تخبّط سياسي نتيجة نظام سياسي قائم على التحاصص، يرعاه ائتلاف بين زعماء الطوائف وأصحاب المصالح. وهو عاجز بطبيعته البنيوية عن اتخاذ أيّ قرار أو القيام بأيّ مسعى للحلّ، أي الاعتراف بأسباب الأزمة والتعامل مع نتائجها بما يمنع تكرارها، وبالتالي التأسيس لنظام سياسي -اقتصادي قابل للحياة والاستدامة، ويضمن ظروف عيش كريمة للمقيمين.
عامُ الانهيار الأوّل
شهد لبنان في عام 2020 أشدّ أزماته في تاريخه الحديث، وترافق ذلك مع تفشّي جائحة كورونا غير المُرتقبة، وإعلان التعبئة العامّة، وتوقّف الحركة الاقتصادية، وإغلاق العديد من المؤسّسات. ويضاف إلى ذلك انفجار مرفأ بيروت في آب الماضي، الذي صُنِّف من بين أكبر الانفجارات غير النووية في العالم، فكان حدوثه معبِّراً عن عجز السلطة المُزمن في اتخاذ أيّ قرار، وقد لا تتكشّف تبعاته إلّا بعد سنين.
تُعدّ الأزمة الاقتصادية الأكثر خطورة وسلبيّة بين الأزمات الثلاث، وفقاً للبنك الدولي. فقد سجّل العام الماضي تراجعاً في العديد من المؤشّرات المالية والاقتصادية والمعيشية، وإعلان لبنان تخلّفه عن تسديد ديونه بالعملات الأجنبية، التي تبلغ قيمتها 33.7 مليار دولار، للمرّة الأولى في تاريخه، فأصبح إمكان حصوله على المزيد من التمويل والاستمرار في نهج العمل نفسه، أمراً شبه مستحيل.
في الواقع، عاش هذا النظام على مراكمة عنصرين: الودائع والمهاجرين، من دون القيام بأيّ جهد أو مسعى لبناء اقتصاد مُنتج يوفّر حاجات المجتمع، أو تطوير أيّ قطاع وتحسينه، أو حتّى توفير الخدمات العامّة الأساسية من طبابة وتعليم وسكن ونقل مشترك
تمثّلت تداعيات الانهيار خلال العام الماضي بتراجع الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة 64% من 52.5 مليار إلى 33.4 مليار دولار في تعبير صارخ عن التدهور الاقتصادي وتراجع الأنشطة والقطاعات الاقتصادية، وانخفاض الثروة الفردية بحيث أصبحت حصّة الفرد من الناتج 2700 دولار أميركي، وعادت إلى المستوى الذي كانت عليه في عام 1994، فيما وصلت المديونية العامّة والخاصّة إلى 672% من مجمل الناتج المحلّي.
في المقابل، ارتفع سعر الدولار بنسبة 400%، من 2100 في بداية العام وصولاً إلى 8400 في نهايته، مؤدّياً إلى تراجع قيمة الليرة بنسبة 80%، وارتفاع معدّل التضخّم، بحيث بلغ متوسّط أسعار الاستهلاك نحو 146%، وهي نسبة تعبِّر عن المتوسّط العام لمجمل أسعار السلّة الاستهلاكية. في حين أنّ قياس أسعار السلع غير المدعومة، مثل الثياب والتجهيزات المنزلية، يظهر تضخّم أسعارها بنسبة 655% و600% على التوالي، وهو ما يفسّر تراجع الاستيراد بنسبة 49%، نتيجة عدم توافر العملات الأجنبية وارتفاع أسعارها وتدنّي القدرة الشرائية للمقيمين.
إقرأ أيضاً: مرصد AUB: الانهيار الكامل.. قاب “أسبوعين” أو أدنى (1/4)
ما الذي يحمله عام 2021 وما بعده؟
لا يتوقّف الانهيار عند حدود الاقتصاد أو تراجع أحوال المجتمع، بل يعود في الأساس إلى انهيار النظام السياسي، وعجزه عن إنتاج حكومة قادرة على التوافق، بالحدّ الأدنى، على برنامج اقتصادي إنقاذي لمواجهة هذه الأزمة. في الواقع، لا يزال لبنان حتى اليوم من دون حكومة فاعلة بعدما استقالت حكومة الرئيس حسّان دياب في أعقاب انفجار مرفأ بيروت في آب الماضي، وذلك على الرغم من تسارع تداعيات الأزمة في ظلّ الفراغ المؤسّساتي والجمود السياسي واستنزاف ما تبقّى من موارد مالية مُتاحة يمكن استخدامها في النهوض، إضافةً إلى ترجيح تفاقمها بعد رفع الدعم عن السلع الأساسية، الذي سيسبّب ارتفاعاً للأسعار بشكل جنوني، وانقطاع الكثير من السلع، وتوقّف العديد من الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والنقل، وتدحرج المجتمع، ولا سيّما ذوي الدخل بالليرة اللبنانية، إلى مستويات أعمق من الفقر، مع ما قد يتبع كلّ ذلك من حوادث اجتماعية وأمنيّة عنفيّة خطيرة، في مقابل تفريغ المجتمع من طاقاته ومهاراته عبر النزف الناتج عن الهجرة المتوقّع أن تزداد مع عودة الاقتصادات العالمية والإقليمية إلى دورتها الاقتصادية بعد الانتهاء من احتواء أزمة كورونا. ومن ضمن التداعيات الكبيرة المتوقّعة، تبرز خمس قضايا يجب ترقّبها ومقاربتها.
ما هي؟
في الحلقة الثالثة غداً: سرد للمعضلات بالتفاصيل والأرقام