سارعت بعض الأوساط، في أعقاب الجلسة النيابية السبت، إلى القول إنّ لبنان دخل “زمن الانتخابات”، باعتبار أنّ الأفق مسدود أمام تشكيل الحكومة، خصوصاً بعدما أوحت الأجواء التصعيدية في تلك الجلسة، ولا سيّما من قبل الرئيس سعد الحريري، أنّ تأليف حكومة الاختصاصيين أصبح أثراً بعد عين.
غير أنّ دعوة القوات اللبنانية المتكرّرة إلى انتخابات نيابية مبكرة، وتلويح التيار الوطني الحر باستقالة نوّابه من المجلس النيابي كأحد الخيارات المطروحة على طاولته، وهو ما لن يسمح به حزب الله، غير كافيين أبداً للقول إنّ كل الحركة السياسية في البلد باتت معلّقة على حبل الانتخابات النيابية، سواء كانت مبكرة أو في موعدها.
في الواقع أنّ الجزم باستحالة تشكيل حكومة قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون لا يستند إلى معطيات أكيدة، بل إلى ترجيحات سياسيّة قد تتحقّق أو لا. لكنّ الأكيد أنّ الاستحقاق الحكومي ما عادت مقاربته ممكنة من دون ربطه بالاستحقاقات الدستورية المقبلة، سواء الانتخابات النيابية أو الرئاسية المقرّرة في سنة 2022.
لذا يأخذ تأليف الحكومة الآن أبعاداً إضافية متّصلة بكل تفاصيل المرحلة المقبلة. وهذا أمر قد يعقّد تشكيل الحكومة لأنّ حسابات الأطراف المعنية بتأليفها ستأخذ في الاعتبار كل الاستحقاقات العتيدة. لكن في المقابل، بات تشكيل الحكومة مدخلاً أساسياً لمقاربة تلك الاستحقاقات والاتفاق الأوّلي بشأنها بين اللاعبين الكبار، تجنّباً لدخول لبنان في فوضى دستورية وحالة انعدام استقرار سياسي قد ترتّبا مفاعيل اجتماعية وأمنيّة خطيرة. إلّا إذا كانت الأطراف الرئيسة في البلد، وتحديداً حزب الله والتيار الوطني الحر، يريدان الوصول إلى “زمن الفوضى” للدفع باتجاه “تسوية كبرى” لا تقتصر على الحكومة والانتخابات النيابية والرئاسية، بل تشمل البحث في تعديل الدستور.
في الواقع أنّ الجزم باستحالة تشكيل حكومة قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون لا يستند إلى معطيات أكيدة، بل إلى ترجيحات سياسيّة قد تتحقّق أو لا
وإذا كان السيناريو الأخير مطروحاً بين سيناريوهات أخرى، فهو كما سواه سيناريو مرجّح، إذ يمكن التشكُّك في إمكان حصوله باعتبار أنّ الحزب الذي يستطيع تحقيق ما يريد داخل السلطة وخارجها، في ظلّ عدم ممانعة القوى الرئيسة لغلبته الداخلية، ليس مضطرّاً إلى الدفع أكثر نحو انهيار سياسي واجتماعي وأمنيّ في البلد، في لحظة إقليمية ودولية شديدة التعقيد، ولا سيّما في ظلّ احتدام الصراع الإيراني الإسرائيلي الذي يمكن، في أيّ لحظة، أن يترجم حرباً بين إسرائيل والحزب في جنوب لبنان.
وفي هذا السياق، يمكن لحرب غزّة أن تدفع الحزب باتجاه تحفيز تشكيل الحكومة في لبنان لسببين: الأوّل أنّ الغطاء الأميركي لإسرائيل في حربها ضدّ حماس قد يجعل تل أبيب أكثر جرأة واستعداداً لكسر قواعد الاشتباك مع حزب الله في لبنان. وهو ما يمكن الاستدلال عليه في كلام السيّد نصر الله الثلاثاء عندما حذّر إسرائيل من “الدخول في حماقة جديدة”. ولا ننسى أنّ تهديد الحزب بالردّ على مقتل أحد مقاتليه في غارة إسرائيلية في سوريا، الصيف الماضي، ما زال قائماً. وقد أضاف نصر الله إلى حسابه مع إسرائيل دماء الشاب محمّد طحّان، الذي قُتل برصاص إسرائيلي في الجنوب أخيراً. كلّ ذلك يجعل الحزب أكثر تحفّزاً لإرساء استقرارٍ سياسي في لبنان، ولو بالحدود الدنيا، من خلال تشكيل حكومة، ولا سيّما أنّ حكومة تصريف الأعمال الحالية هي غير موجودة فعليّاً.
أمّا السبب الثاني فهو إعلان “محور المقاومة” انتصاره في حرب غزّة. فقد يدفع هذا الإعلانُ الحزبَ إلى تثمير هذا الانتصار في الحكومة اللبنانية، التي مهما تكن طبيعتها وتركيبتها فلن تكون أرجحيّتها السياسية، بحكم موازين القوى الحالية، إلّا لمصلحة الحزب، الذي يمكنه القول إنّ الحكومة اللبنانية العتيدة تعكس في موازين قواها تقدّم محور المقاومة في المنطقة. وهو ما أشار إليه نصر الله مسبقاً في حديثه عن ثبات معادلة الجيش والشعب والمقاومة في لبنان، وعن البيان الوزاري المؤيّد للمقاومة.
وليس استئناف الرئيس نبيه برّي حركته، على صعيد تشكيل الحكومة، معزولاً عن سياق هذه التطوّرات. ويوحي حديث رئيس المجلس عن أنّ العقدة الحكومية داخلية وشخصية بحت، وهو ما أيّده فيه نصر الله، بأنّه تلمّس ضوءاً أخضر خارجياً، وتحديداً إيرانياً، لتشكيل حكومة في لبنان خلال هذه المرحلة، في ظلّ تقدّم المفاوضات النووية بين طهران وواشطن في فيينا.
هذا كلّه يجعل الحديث عن دخول لبنان زمن الانتخابات النيابية، سواء المبكرة أو في موعدها، حديثاً يحتاج إلى تدقيق، خصوصاً إذا لم يأخذ في الاعتبار عدم إمكان فصل الاستحقاقات الدستورية، سواء الحكومية أو التشريعية أو الرئاسية، بعضها عن البعض الآخر.
يتطلّب أيّ استحقاق من هذه الاستحقاقات توافقاً داخلياً، بالحدّ الأدنى، بين الأفرقاء الرئيسين. وسيستجلب أيّ اتفاق على واحد منها اتفاقاً، أو حديثاً ولو أوّليّاً، على الاستحقاقات الأخرى. وأمّا الراعي الأساسي لهذه الاتفاقات فهو حزب الله، الذي يمسك بمفتاح كلّ هذه الاستحقاقات، وإن لم يكن قادراً وحده على بتّها، فإنّه يستحيل بتّ أيٍّ منها من دونه.
ليس استئناف الرئيس نبيه برّي حركته، على صعيد تشكيل الحكومة، معزولاً عن سياق هذه التطوّرات. ويوحي حديث رئيس المجلس عن أنّ العقدة الحكومية داخلية وشخصية بحت
لذلك تبقى حظوظ إجراء انتخابات نيابية مبكرة معدومةً، لأنّ الحزب لن يسمح بإسقاط الغالبية النيابية الحالية، التي اعتبرها قاسم سليماني، في أعقاب انتخابات 2018، انتصاراً لإيران. وكان النائب محمد رعد قد رفض، خلال اجتماع ممثّلي القوى اللبنانية مع الرئيس الفرنسي في قصر الصنوبر، الصيف الماضي، البحثَ في طلب القوات إجراء انتخابات مبكرة، فطويت صفحتها. ناهيك بأنّ أيّ اتفاق على إجراء انتخابات نيابية مبكرة، لن يكون بمعزل عن الاتفاق على استحقاق رئاسة الجمهورية. وهنا تذكِّر أوساطٌ بسابقة انتخاب الرئيس إلياس سركيس في سنة 1976، قبل انتهاء ولاية الرئيس سليمان فرنجية بعدّة أشهر، بعدما وقع الصراع حول رئاسة الجمهورية عقب مطالبة الحركة الوطنية باستقالة فرنجية. وقد فتح انتخاب سركيس قبل أوانه الباب أمام إمكان البحث عن حلول للمرحلة المقبلة. فلماذا لا يتكرّر الأمر نفسه الآن؟ علماً أنّ نصر الله شدّد على بقاء عون في بعبدا إلى آخر لحظة من ولايته.
إقرأ أيضاً: الحكومة في أيلول: الانتخابات أولاً..
إلى ذلك، يُمسك حزب الله بورقة الانتخابات النيابية في يده، لا لناحية إجرائها أو عدمه وحسب، بل ولناحية توقيتها أيضاً. فإذا حصل ضغطٌ دولي باتجاه إجراء الانتخابات في موعدها، فإنّ الحزب يريد ثمناً للإفراج عنها كما حصل في سنة 2005، إذ كان إجراء الانتخابات في موعدها وقتذاك مدخلاً لفكّ العزلة الداخلية عن الحزب بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وفي الخلاصة، لن يسمح الحزب بانتخابات لا يضمن مسبقاً إنتاجها غالبية نيابية لمصلحته، كما هي الحال في البرلمان الحالي.
في ظلّ هذا المشهد المعقّد والكثير السيناريوهات، يمكن لتشكيل الحكومة أن يجنّب لبنان الذهاب نحو مجهول دستوري وسياسي وأمنيّ لن تكون كلفته قليلة على أحدٍ حتّى الحزب الذي سيكون، في حال الانهيار التامّ، قد أثبت فشله في إدارة اللعبة الداخلية التي تسلّم له بها كلّ الأطراف الرئيسة في ظلّ عدم وجود معارضة حقيقية.