“يستحق قتل محمّد الضّيف الدّخول في معركة جديدة في الجنوب”. هذا ما نقلته وسائل إعلام إسرائيليّة عن مسؤولٍ عسكريّ بعد إعلان وقف إطلاق النّار في غزّة بعد جولة الـ 11 يوماً الأخيرة. كان الجديد في تلك الجولة تصدّرَ اسم القائد العام لكتائب عزّ الدّين القسّام، الجناح العسكريّ لحركة “حماس”، محمّد الضّيف (أبو خالد)، المشهد، بعد تكرّر اسمه، على لسان المُتحدّث باسم الكتائب “أبو عبيدة”، أو على ألسنة المسؤولين العسكريين والأمنيين الإسرائيليين، أو بالهتاف الشّعبي “محمّد ضيف يا حبيب / إضرب إضرب تلّ أبيب”.
من يكون محمّد الضّيف؟ وكيف استطاع رئيس الجناح الإيراني في “حماس” الهيمنة على الحركة وإقصاء الجناح التركيّ – القطريّ؟
في العودة إلى عام 1984، اجتمع عددٌ من طُلّاب مؤسّس حركة “حماس” الشّيخ الإخوانيّ أحمد ياسين، برئاسة المؤسس الفعليّ لكتائب القسّام الرّاحل صلاح شحادة، وكان من ضمنهم الرّاحلون عماد عقل، أحمد الجعبري، نزار ريّان، محمود المبحوح، ويحيى عيّاش، ومعهم شابٌّ قليل الكلام نشيطٌ في المجال الدّعويّ هو مُحمّد دياب المصري المعروف بـ”محمّد الضّيف”. وضع المجتمعون النّواة الأولى لكتائب القسّام تحت اسم “المجاهدون الفلسطينيّون”، ليتغيّر اسمها بشكلٍ رسمي عام 1991 إلى “كتائب عزّ الدّين القسّام”.
مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى سنة 1987، استطاعت مجموعة “المجاهدون الفلسطينيّون” إقناع الشّيخ أحمد ياسين بالانخراط في العمل العسكريّ ضدّ الجيش الإسرائيلي، بعدما كان يرفض الفكرة نظراً إلى الكلفة المُترتّبة على المواجهة مع الجيش الأقوى يومئذٍ في الشّرق الأوسط.
كان محمّد الضّيف، المولود عام 1965 في قطاع غزّة، يعمَل مع رفاقه برئاسة صلاح شحادة على إطلاق العمل العسكريّ لتنظيم الإخوان في القطاع. الضّيف هو اللقب الذي عُرِفَت به عائلة القائد العسكريّ لكتائب القسّام، إذ حلّت العائلة المُتحدّرة من الدّاخل المُحتلّ “ضيفاً” على أهالي القطاع. سُرعان ما وجد “الشّباب الإخوانيّون” في قطاع غزّة عوناً إيرانيّاً منقطع النّظير، بدأ بالمال ثم بالسّلاح وتطوير الخبرات والصّواريخ والعبوّات النّاسفة. خصوصاً أنّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة التي تتزعّمها حركة فتح كانت حينئذٍ في صفّ الرّئيس العراقي السّابق صدّام حسين في حربه مع نظام الخميني.
مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى سنة 1987، استطاعت مجموعة “المجاهدون الفلسطينيّون” إقناع الشّيخ أحمد ياسين بالانخراط في العمل العسكريّ ضدّ الجيش الإسرائيلي، بعدما كان يرفض الفكرة نظراً إلى الكلفة المُترتّبة على المواجهة مع الجيش الأقوى يومئذٍ في الشّرق الأوسط
وبعيداً من الأراضي الفلسطينيّة، وتحديداً في إيران، كان الخُميني قد وصَلَ إلى الحُكم بعد إطاحة نظام الشّاه محمّد رضا بهلوي سنة 1979، وعيونه شاخصة نحو الدّول العربيّة لتصدير “الثّورة الإسلاميّة”. وجدَ الإيرانيّون في تنظيم الإخوان مطيّةً لدخول الدّول العربيّة ذات الغالبيّة السّنيّة، خصوصاً بعد النّكسات التي أصابت القوى اليساريّة والقوميّة العربيّة بعد سلسلة هزائم عسكريّة واستيلاء إسرائيل على القدس بشطريْها الشّرقيّ والغربيّ.
وغنيّ عن الذكر أنّ علاقة الإخوان بالخميني تمتدّ إلى ما قبل إسقاط نظام الشّاه، وتحديداً أثناء وجوده في منفاه الباريسي، حيث اجتمع مع وفود من جماعة الإخوان من بلادٍ عربيّة بالتّنسيق مع أبو الحسن بني صدر، الذي صارَ أوّل رئيسٍ لإيران بعد الثّورة.
المُرشِد الرّوحي لتنظيم الإخوان يوسف القرضاوي قال في كتابه “أمّتنا بين قرنين”: “لقد أقام الخميني دولة للإسلام في إيران، وكان لها إيحاؤها وتأثيرها على الصحوة الإسلامية في العالم، وانبعاث الأمل فيها بالنصر”. كلام يُعبّر عن التّأثير العميق للخميني وثورته في الحركات الإخوانيّة التي سارعَ قياديّو الصّف الأوّل فيها إلى زيارة طهران وتهنئة الخميني.
ذهَبت العلاقة بين حماس وإيران تتوسّع شيئاً فشيئاً. إذ نسجَ القائد العامّ الأوّل لكتائب القسّام الرّاحل صلاح شحادة علاقاتٍ متينة مع الحرس الثّوريّ الإيراني، وكلّف محمود المبحوح، الذي اغتاله الموساد سنة 2010 في فندق البستان في دبي بعد عودته من لقاءات عقدها في القنصليّة الإيرانيّة، بتنسيق مسألة تهريب الصّواريخ والسّلاح والمواد الأوليّة مع الحرس الثّوري إلى قطاع غزّة. وفي داخل مساحة القطاع الضيّقة، كان المهندس يحيى عيّاش يُطوّر بإشرافٍ إيرانيٍّ أسلوباً جديداً عمادُه التفجيرات الانتحاريّة واستهداف الحافلات الإسرائيليّة. وهذا ما جعل الإسرائيليّين يُطاردون يحيى عيّاش منذ 1993 حتّى تمكّنوا من اغتياله مطلع 1996.
غنيّ عن الذكر أنّ علاقة الإخوان بالخميني تمتدّ إلى ما قبل إسقاط نظام الشّاه، وتحديداً أثناء وجوده في منفاه الباريسي، حيث اجتمع مع وفود من جماعة الإخوان من بلادٍ عربيّة بالتّنسيق مع أبو الحسن بني صدر، الذي صارَ أوّل رئيسٍ لإيران بعد الثّورة
كان اغتيال يحيى عيّاش، وقبله القيادي عماد عقل، ضربةً لحركة حماس، ورافعةً لمحمّد الضّيف الذي صارَ مُلازماً لقائد القسّام صلاح شحادة، وكان هو الرّجل الذي سيُمسِكُ بزمام القيادة في كتائب القسّام بعدما تمكّنت طائرة F-16 إسرائيليّة سنة 2002 من إسقاط قنبلة تزن 1000 كلغ على مبنىً يتحصّن فيه صلاح شحادة. عندئذٍ صارَ حِملُ كتائب القسّام يتقاسمه 3 أشخاص، وهم: محمّد الضّيف في منصب القائد العامّ، ونائبه الرّاحل أحمد الجعبري، ومروان عيسى تولّى قيادة عمليّات الكتائب على الأرض.
إقرأ أيضاً: هنية والحزب ومسؤوليات الانهيار في فلسطين ولبنان
لم يكن الثّلاثي الضّيف – الجعبري – عيسى يتدخّلون في الشّؤون السّياسيّة للحركة حتّى سنة 2006 التي حملت حماس، البانية لـ”مجدها” عبر صواريخ القسّام والأحزمة النّاسفة، نحو المجلس التشريعي الفلسطيني بعدما استطاعت نيل الأغلبيّة فيه. وهذا ما أدّى إلى “الانقسام الفلسطيني”، الذي انتهى بنزول كتائب القسّام للمرّة الأولى على الأرض بسلاحها في مواجهة السّلطة الفلسطينيّة، وقتل مئات الفلسطينيين، وأسر الآلاف، وإعلان الضّيف بشكلٍ غير مباشر أنّ الكلمة الفصل في السّياسة والأمن في قطاع غزّة له وحده. فالجناح العسكريّ لحماس، المُوالي للحرس الثّوري، لم يكن راضياً عن “اتفاق مكّة”، الذي وُقّع قبل أسابيع قليلة من نزول “رجال الضّيف” إلى الأرض. حمل الاتفاق يومها توقيع رئيس السّلطة الفلسطينيّة محمود عبّاس ممثّلا فتح، ورئيس جهاز الأمن الوقائي محمّد دحلان من جهة، وحركة حماس مُمثّلة بالثّنائي خالد مشعل وإسماعيل هنيّة، اللذين سيُرسلهما الضّيف في وقت لاحق إلى فنادق إسطنبول والدّوحة بعد موقفهما من الثّورة السّوريّة وتقرّبهما من قطر وتركيا…
غداً في الجزء الثّاني:
محمّد الضّيف يُرسِل هنيّة إلى الفندق ومشعل إلى المنزل: إمّا مع إيران وإمّا ضدنا….