صار الواحد منّا، في مرصدنا هنا في بيروت، قادراً، جرّاء المعاينة والمتابعة، على تحديد أسباب تأليف الحكومة الإسرائيلية تلو الأخرى. وما عاد مهمّاً البتّة رصد نتائج التصويت في أيّ انتخابات إسرائيلية، وكم نال اليمين واليمين الديني (الحريدي)، أو تحليل مؤشّرات التصويت في الوسط العربي، وكم نالت حركة ميرتس أو حزب العمل أو لائحة كحول – لافان، أي كحل ولبن (أزرق – أبيض)، المهمّ هو الإجابة عن السؤال التالي: لماذا لا يتمكّن اليمين الإسرائيلي، الذي حاز 80 مقعداً في آخر انتخابات، من تأليف حكومة؟
الجواب الأوّلي هو أنّ المشكلة تكمن في عدم قدرة مجموعات اليمين المشرذمة على الاتفاق، وهو ما يعكس حالة اجتماعية معقّدة إلى حدّ بعيد. ويبدو، بحسب المعلوم، أنّ اليمين القومي اللادينيّ من عيار أفيغدور ليبرمان (رئيس حزب يسرائيل بتينو “إسرائيل بيتنا”) لا يمكنه أن يجتمع البتّة في حكومة واحدة مع حركة “شاس” المزراحية مثلاً، أو مع أيّ من القوائم العربية، أو مع الحريدي بتسِلائيل سموتريتش. فقد بات اليمين الإسرائيلي اليوم يقف على ساقين متنافرتين: الليكود والكهانية الحريدية. و”الحريديم” تعني الأتقياء أو الورعين، الذين يخافون الرب. وفئة من هؤلاء تعتبر قيام إسرائيل تحقيقاً لإرادة الربّ مثل حزب “المفدال”، وفئة أخرى تعتبر قيام إسرائيل إعاقة لإرادة الرب مثل جماعة ناطوري كارتا (حرّاس المدينة). وبحسب ناطوري كارتا فإن المسيح حين يأتي هو وحده مَن سيقيم مملكة إسرائيل لا الصهيونيّون. والكهانية الحريدية لا تطيق اسم ليبرمان، وتعتبره إبليس اللعين لأنّه يريد تطبيق القانون المدني وتشغيل المواصلات يوم السبت، والسماح للمؤسّسات التجارية التي ترغب في العمل يوم السبت أن تفتح أبوابها، وأن يخدم طلاب المدارس الدينية (يشيفاه) في الجيش. وليبرمان نفسه لا يطيق الفلسطينيين، وهم بدورهم لا يحتملون سماع اسمه لأنّه يدعو إلى طرد سكان المثلّث العربي إلى الدول العربية، وأن يُرغم مَن يريد البقاء في “دولة إسرائيل” على الولاء للعلم الإسرائيلي ونشيد “هاتكفاه” (الأمل)، وأن يخدم في الجيش، وألّا يتحوّل إلى مقيم دائم، فلا يُعتبر مواطناً.
مشكلة إسرائيل اليوم أنّها تدير ثلاثة أنظمة للحكم:
– نظام ديموقراطي لليهود وحدهم (80% من السكّان).
– ونظام عنصري ضد الفلسطينيّين (20% من السكان).
– ونظام احتلال للضفّة الغربية.
المهمّ هو الإجابة عن السؤال التالي: لماذا لا يتمكّن اليمين الإسرائيلي، الذي حاز 80 مقعداً في آخر انتخابات، من تأليف حكومة؟
أمّا المشكلة الأعمق فهي أنّ النخبة الأشكنازية (الغربية)، التي قادت مراحل تأسيس إسرائيل، تبدو اليوم كأنّها تتحلّل. والنخبة السفاردية (الشرقية) التي صعدت في السلم الاجتماعي مع الانقلاب الكبير في أيار 1977 (وصول الليكود إلى الحكم برئاسة ميناحم بيغن) غير قادرة على الحلول في محل الأشكيناز، وأبعد ما تطمح إليه هو أن تكون شريكة في السلطة. وبهذا المعنى، تغيّرت إسرائيل خلال نصف قرن تغيّراً جوهريّاً، فما عادت من دول العالم الأوّل قطّ. إنّها تقع في العالم الثالث جغرافيّاً، وأكثر من 60% من سكّانها جاؤوا من دول العالم الثالث، ومشكلاتهم صارت تشبه مشكلات العالم الثالث كالفساد، والرشوة، والتفاوت الاجتماعي الواسع، وصعود المتديّنين، وتبلور الاتّجاهات العنصرية والفاشية، وفقدان القيم الطهرانيّة الموروثة من عصر التأسيس.
انتهى عصر المؤسّسين الأوائل أمثال ديفيد بن غوريون وحاييم وايزمن وموشي شاريت. وانقضى عهد القادة المبجّلين من الشعب الإسرائيلي، أمثال يغآل يادين وموشي دايان ويتسحاق رابين وغولدا مئير وليفي أشكول وشمعون بيريز. ومضى الزمان الذي نجحت فيه إسرائيل في الترويج لركيزتين تحكمان سلوك الفرد الإسرائيلي: الأولى هي طهارة السلاح، والثانية هي طهارة المعايير العامّة للمجتمع الإسرائيلي، أي عدم تربّح السياسيين والموظفين على حساب الدولة والمال العامّ، ثمّ نزاهة القضاء.
وكان من الطبيعي أن تترافق ظاهرة الفساد والرشوة مع تحوّل الاقتصاد الإسرائيلي من اقتصاد تديره الدولة على طريقة الدول الاشتراكية الديموقراطية في أوروبا، إلى نظام ليبرالي على الطريقة الأميركية حيث تتنافس في نطاقه، بلا هوادة، مجموعات اقتصادية ورجال أعمال وتجّار ومستثمرون وسماسرة وخبراء ماليّون وأصحاب نفوذ سياسي.
وفي ميدان ذلك التحوّل التاريخي بدأت أخبار الفضائح المالية تستولي على الصفحات الأولى من الصحف الإسرائيلية. وكانت البداية حين نشر الصحافي دان مرغليت، في آذار 1977، خبراً عن أنّ يتسحاق رابين يمتلك مع زوجته ليئة حساباً مشتركاً بالدولار في مصرف “ناشيونال بنك” الأميركي منذ أن كان سفيراً في الولايات المتحدة الأميركية، وكان عليه أن يغلق الحساب في سنة 1973 بانتهاء مهمّته. واضطر رابين تحت ضغط الصحافة، ثمّ بعد الموقف الحاسم للمستشار القضائي أهرون براك، إلى الاستقالة.
كان من الطبيعي أن تترافق ظاهرة الفساد والرشوة مع تحوّل الاقتصاد الإسرائيلي من اقتصاد تديره الدولة على طريقة الدول الاشتراكية الديموقراطية في أوروبا، إلى نظام ليبرالي على الطريقة الأميركية
وكرّت الفضائح بعد ذلك، فسُجن آرييه درعي ثلاث سنوات في سنة 1990، وكان وزيراً للداخلية، بتهمة تلقّي الرشوة. وسجن أهرون أبو حصيرة وزير الأديان في سنة 1979 بتهمة استخدام أموال خلافاً للقانون. وسُجن إيهود أولمرت، رئيس الحكومة، بتهمة تلقّي أموال في سنة 1995 حين كان وزيراً للتجارة والصناعة من الثريّ الأسترالي موشي تالينسكي لقاء موافقته على مشروع إسكاني يُدعى هولي لاند. ولم يسلم رئيس الدولة موشي كاتساف من السجن بتهمة التحرّش الجنسي، وهو من أصول إيرانية، وكذلك يتسحاق مردخاي بتهمة جنسية أيضاً، وهو من أصول كردية. وأُجبر حاييم رامون، وزير العدل، على الاستقالة من منصبه بتهمة تقبيل موظفة عنوة. ومعظم أولئك المَدينين متحدّرون من دول العالم الثالث، خصوصاً الدول العربية.
إقرأ أيضاً: فلسطين وحسابات المرابحة: الحياة أهمّ من العدالة أحياناً؟
لا ريب في أنّ أبرز قضايا الفساد والتربّح في إسرائيل اليوم هي القضايا المرفوعة ضد بنيامين نتانياهو، والتي لم يتمكّن القضاء من السير بها إلى خواتيمها منذ أربع سنوات. فهو متّهم بالحصول على منافع شخصية من أثرياء ورجال أعمال أمثال شاوول ألوفيتش مالك شركة “بيزك” للاتصالات، وناشر جريدة “يديعوت أحرونوت” أرنون موزس، والممثّل السينمائي أرنون ميليتشيف وغيرهم. ومعظم هذه القضايا يمكن التوصّل إلى تسويات بشأنها كالغرامة. لكنّ ملف الرشوة سيؤدّي به إلى السجن. وهذه هي المشكلة الفعلية في استعصاء تأليف الحكومة، إذ إنّ نتانياهو يخوض منذ سنتين غمار السياسة لغاية وحيدة هي الدفاع عن مصالحه وعن مصيره الشخصي. وهو يريد إلغاء الاتّهامات ضدّه، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا ببقائه رئيساً للحكومة، أو بالتوصّل إلى اتفاق في هذا الأمر لمصلحته، وذلك بأن يبقى على رأس الحكومة حيث يمكنه الاستمرار في تعطيل المحاكمة، أو مدّ أجلها من دون صدور أيّ حكم عليه. وقصارى القول أنّه يحاول، من موقعه على رأس حزب الليكود، أن يجد له مخرجاً من لائحة الاتّهامات المرفوعة ضدّه، وأن يبقى لاعباً سياسيّاً أوّل كرئيس لحزب الليكود. وبهذه الصورة يبدو نتانياهو كالمتباري في سباق الدرّاجات، الذي عليه أن يستمرّ في تحريك الدولاب برجليه، لأنّه إذا توقّف يقع فوراً. ولهذا يسعى، بالمناكب، حتّى يتمكّن من أن يحجز له مقعداً في أيّ مكان، ولو في القطار أو في السيارة أو حتى في صالة السينما، بشرط ألا يدفع ثمن تذكرة الركوب.