حين تُطلَق آخر قذيفة في هذه الحرب التراجيدية، وتتوقّف الطائرات والمدفعيّة والصواريخ الإسرائيلية عن تدمير مدن قطاع غزّة، وتقتيل أطفال فلسطين ونسائها، سيبدأ الجميع، مثل كلّ مرّة، في عدّ الأوراق الرابحة التي جمعها كلّ طرف لاستثمارها في المرحلة المقبلة، فيما يتحوّل الضحايا إلى مجرّد أرقام في وسائل الإعلام، وتُقلَب صفحاتهم في سجلّ الأحوال الشخصية. وعند ذلك سيتباهى كلّ طرف بأنّه حقّق انتصاراً على عدوّه. حتّى إنّ بعض الفصائل الفلسطينية التي لا تمتلك أسلحة صاروخية، تتبارى في إعلان إطلاق صواريخها على المدن الإسرائيلية بغزارة.
لقد وحّدت معارك أيار 2021 الفلسطينيّين على اختلاف سياساتهم، وتمكّن فلسطينيّو الضفّة الغربية والقدس الشرقية من تأسيس “جمهورية” حرّة لهم، ولو لنصف شهر. والمقصود تأسيسهم حيّزاً مشتركاً إلى حدّ بعيد. لكن من المشكوك فيه جدّاً أن تدوم هذه الحال طويلاً لأنّ وحدة الرؤية السياسية ما كانت موجودة بالأمس، وهي غير موجودة اليوم. وجُلّ ما نخشاه، في هذه الأيام العصيبة، أن تتحوّل بعض الفصائل، بعد أن تصمت المدافع، إلى ما يشبه عجائز الأفراح: أكل ونقار وسخرية من العروس. وفي هذا الميدان سنحاول رصد حساب المرابحة لجميع الأطراف مع أنّ اللحظة الراهنة ليست متينة تماماً لاستخلاص المؤشّرات المستقبلية، بل هي مقاربة من بين الركام.
حساب المرابحة الفلسطينيّ
لا ريب أنّ فلسطين استعادت، خلال أسبوع واحد، مكانتها السياسية، وهو ما عجزت عنه الحركة السياسية المعتادة منذ سنوات. وها هي قضية فلسطين تعود اليوم بنداً أساسيّاً على جدول أعمال الدول الكبرى. ولا بدّ من التأكيد، منذ الآن، أن لا مرجعية سياسية للفلسطينيّين غير منظمة التحرير الفلسطينية، ومعها السلطة الشرعية لدولة فلسطين تحت الاحتلال.
لقد وحّدت معارك أيار 2021 الفلسطينيّين على اختلاف سياساتهم، وتمكّن فلسطينيّو الضفّة الغربية والقدس الشرقية من تأسيس “جمهورية” حرّة لهم، ولو لنصف شهر
ربّما نقرأ ونسمع في القريب العاجل بعض التصريحات غير المسؤولة عن أنّ حركة حماس باتت هي المرجعية السياسية للفلسطينيّين. هذا كلام نشاز من شأنه أن يبدّد الأوراق الرابحة التي تجمّعت في هذه الأثناء. ولا يمكن إنكار أنّ حماس شريكة في صنع السياسات العامّة في فلسطين. فالواقعية السياسية تقول هذا. أمّا أن تصبح حماس هي المرجعيّة، فهو من شطَط المعاني والمواقف. فالختم السياسي الفلسطيني موجود لدى السلطة الشرعية وحدها، وليس لدى أيّ أحد غيرها. وربّما سيزعم بعض مناصري إيران أنّ خطّهم السياسي انتصر. والواضح أن لا خطّ سياسيّاً انتصر، ولا محور عسكريّاً فاز. فحساب المرابحة أو حساب المخاسرة دوّنه الفلسطينيّون، وهو ملكهم وحدهم وليس لأيّ أحد غيرهم. وفي أيّ حال، أطلق الصمود الفلسطيني اليوم اللسان الأميركي من عقاله ليُفصح أنّ الولايات المتّحدة ملتزمة فكرة حلّ الدولتين التي حاول دونالد ترامب طمرها وإهالة الركام عليها، وأنّ مصير مدينة القدس تقرّره المفاوضات المباشرة، وأنّ الولايات المتحدة لا تعترف بالتغييرات الديموغرافية التي تقوم بها إسرائيل في الضفّة الغربية المحتلّة. وهذه مقدّمة للعودة إلى المفاوضات المباشرة.
ومن دواعي الأسى أن نتوقّع أنّ سكان قطاع غزّة لن يربحوا شيئاً في الترتيبات الجديدة، مع أنّ الأصابع في ديارهم ستستمرّ في الارتفاع على شكل حرف النصر V. فالحياة لديّ أهم من العدالة في كثير من الأحيان، وأيّ انتصار يتبدّد أمام مشهد عرس في غزّة حيث نصف المدعوّين يتّكئون على العكّازات.
فلسطينيّو 1948
الواضح الأكيد أنّ فلسطينيّي 1948 “كسروا” على الإسرائيليين في داخل الخطّ الأخضر، وها هم ينتقلون بشجاعة من مرحلة الافتخار بقوميّتهم ورفع الرؤوس بثقة، إلى مرحلة رفع قبضاتهم في وجه الإسرائيليين مباشرة. وسيكتشف الأكاديميون الإسرائيليون وخبراء الجيش أنّ الجهد الذي بُذل لإدماج الفلسطينيين في منظومة الدولة الإسرائيلية ومؤسّساتها كان وهماً، وأنّ قضية الهويّة أعمق بكثير، وأنّ طراز “العربي – الإسرائيلي” في طريقه إلى الزوال. والسبب هو أنّ الفلسطينيّين في أراضي 1948 كانوا “مواطنين” في دولة تعلن أنّها ليست دولتهم لأنّها، باختصار، دولة اليهود. وعلى الرغم من أنّ المواطنة الإسرائيلية فُرِضت قسراً على مَنْ بقي من سكان فلسطين، لم يعتبروا هذه الدولة دولتهم، والدولة الإسرائيلية بدورها لم تعتبرهم مواطنين حقّاً.
من دواعي الأسى أن نتوقّع أنّ سكان قطاع غزّة لن يربحوا شيئاً في الترتيبات الجديدة، مع أنّ الأصابع في ديارهم ستستمرّ في الارتفاع على شكل حرف النصرV
حساب المرابحة الإسرائيليّ
تريد إسرائيل فرض هدنة طويلة على حماس وعلى المنظّمات الفلسطينية في غزّة. هدنة تضمن سلامة المستعمرات والمدن الإسرائيلية، وتُنهي التهديد بالصواريخ كلّما تعثّرت الأوضاع السياسية واستعصت. وهذا مطلب يقارب الاستحالة. فالهدنات كلّها مؤقّتة ومرتبطة بالتحوّلات السياسية. وستواجه الدولة الإسرائيلية مؤشّرات سلبية مثل اتساع وتيرة التفكّك في الجبهة الداخلية، واحتدام الصراعات الحزبية. لكنّ الأكثر أهميّة هو تأكُّل قوّة الردع لدى الجيش الإسرائيلي، واكتشافه أنّ السلاح، بما فيه القبّة الحديدية، لا يحمي الإسرائيليين حماية تامّة، وأن لا أمن من دون حلّ سياسي مع الفلسطينيين، وأنّ عقيدة “الجدار الحديدي” قد اندثرت. وهي العقيدة التي صاغها فلاديمير جابوتنسكي استناداً إلى أفكار ديفيد بن غوريون، وتتلخّص في كون العرب سيحاولون دائماً مهاجمة إسرائيل، ولن يتوقّفوا عن ذلك إلا حين يدركون أنّ محاولاتهم تلك تشبه اختراق جدار حديدي بالرؤوس. وعلى هذه الأفكار بُنيَت نظرية الردع التي تعني أنّ الخصم يجب أن يدرك أنّه سيدفع ثمناً لا يمكن احتماله إذا مسّ أمن دولة إسرائيل. وبهذا الإدراك سيمتنع بنفسه عن المسّ بالأمن. لكنّ هذه النظرية باتت في طريقها إلى مستودع الأفكار العتيقة منذ سنوات.
ويمكن، في هذا الميدان، استكشاف بعض المؤشّرات الإضافية في المجتمع الإسرائيلي، وهي شبه بديهية، مثل ازدياد العنصرية والتعصّب والتحوّل بشكل أسرع إلى اليمين الحريدي، وازدياد شراسة الإسرائيليين في المدن العربية التي يسمّونها المختلطة، مثل عكّا وحيفا ويافا واللدّ والرملة، وازدياد شراسة المستوطنين في الضفّة الغربية.
إقرأ أيضاً: القدس: البقاء في المكان معجزة الفلسطينيّين
انتصارات أشنع من الهزائم
إسرائيل قوية؟ نعم بالتأكيد. لكنّ للقوّة العسكرية حدوداً. فماذا تستطيع أن تفعل القوّة المقتدرة بالفلسطينيّين؟ يمكنها أن تدمّر وتقتل، لكنّها لم تستطع، ولن تستطيع، أن تفرض حلّاً عليهم. ونظرية الردع الإسرائيلية القديمة صارت متقادمة وفي طريقها إلى المستودع لانتهاء مفعول التجربة. ومفتاح السلم أو الحرب موجود في الضفة الغربية، وفي القدس بالتحديد، لا في غزّة، لأنّ غزّة، من وجهة نظر مفاهيم الأمن القومي الإسرائيلي، هي مشكلة أمنيّة لا أكثر. أمّا الضفّة الغربية والقدس فهما كعب أخيل الإسرائيلي، وهما ميدان الصراع المباشر. فهناك إمّا أن تُهزم سياسة الضمّ والاستيطان، أو تنتصر إرادة الفلسطينيّين في نهاية المطاف. وهزيمة إسرائيل تعني أمراً واحداً هو قيام دولة فلسطينية مستقلّة في الضفّة والقدس وغزّة.