مع انتهاء عطلتيْ العيد ونهاية الأسبوع، تعود البلاد لتواجه جملة استحقاقات ماليّة لم يعد في الإمكان التغاضي عنها أو تأجيل التعامل معها.
فقد بات الحسم مطلوباً في مهلة تُقاس بالأيام المعدودة في ثلاثة ملفّات أساسيّة: مسوّدة مشروع قانون الكابيتال كونترول، ملفّ الدعم والبطاقة التمويليّة وتعويم الليرة، والكهرباء بكلّ تشعّباتها.
ستشكّل هذه الملفّات الثلاثة معاً مشهداً ماليّاً ممتلئاً بالتطوّرات السريعة خلال هذا الأسبوع، في حين أنّ غياب الحكومة يجعل جميع السيناريوهات أكثر تعقيداً.
ستحمل الأيام القليلة المقبلة تطوّرات حاسمة بالنسبة إلى ملفّ الكابيتال كونترول، الذي يتّصل بشكل وثيق بمستقبل الودائع في النظام المصرفي وكيفيّة استخدامها
1- الكابيتال كونترول
لم تكن المسوّدة الأخيرة، التي تسرّبت إلى وسائل الإعلام، وفقاً لما أدلى به النائب نقولا نحّاس لـ”أساس”، إلا واحدة من مسوّدات عديدة كانت تُعَدّ تباعاً في لجنة المال والموازنة. يُفترض أن تبصر المسوّدة النهائيّة النور هذا الأسبوع، بعد أن يحيلها رئيس اللجنة النائب إبراهيم كنعان إلى اللجنة، على أن تُحال لاحقاً إلى لجنة الإدارة والعدل قبل التصويت عليها في الهيئة العامّة. أمّا الأكيد في هذه اللحظة فهو أنّ مسوّدة مشروع قانون الكابيتال كونترول خرجت من دائرة المراوحة والبحث في جدوى إقرارها، وتصل اليوم إلى مرحلة النقاش الساخن في آخر صيغها.
لن تخلو عمليّة وضع اللمسات الأخيرة على المسوّدة، خلال الأسبوع الجاري، من التجاذب الحادّ على بعض مندرجات مشروع القانون. إذ تصرّ المصارف على الضغط لحصر السحوبات من حسابات ما قبل 17 تشرين الأوّل بالليرة اللبنانيّة فقط، وهو ما يعني إلغاء البند الذي يعطي أصحاب الودائع المدولرة غير الطازجة الحقّ بالحصول على جزء من المبالغ المسحوبة شهريّاً بالدولار النقدي. وتصرّ أيضاً المصارف على خفض سقف التحويلات الاستثنائيّة من كل حساب من 50 ألف دولار إلى 20 ألف دولار أميركي. وللضغط باتجاه الحصول على المطلبين، تشير المصارف إلى أنّ صافي موجوداتها لدى المصارف المراسلة يسجّل عجزاً يتجاوز مليار دولار، وبذلك تفوق موجوداتُها التزاماتِها في الخارج بهذا القدر، وتكون غير قادرة على تنفيذ القانون في حال إقراره وفقاً للصيغة المطروحة حاليّاً.
هكذا ستحمل الأيام القليلة المقبلة تطوّرات حاسمة بالنسبة إلى ملفّ الكابيتال كونترول، الذي يتّصل بشكل وثيق بمستقبل الودائع في النظام المصرفي وكيفيّة استخدامها. وأكثر ما يخشاه المتابعون اليوم هو الخروج بصيغة غير قابلة للتنفيذ من ناحية سقوف السحب أو التحويلات الاستثنائيّة، فيلقى القانون بعد إقراره مصيراً مشابهاً لقانون الدولار الطالبي، الذي تخلّفت معظم المصارف عن تنفيذه.
2- الدعم والبطاقة التمويليّة وتعويم الليرة
ربط رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب مسألة رفع الدعم بتقديم البطاقة التمويليّة، بالدولار الأميركي، قبل أن يأفل نجمها سريعاً خلال أيام. فالدولارات المطلوبة لتمويل البطاقة غير متوافرة من خلال دعم خارجي. ولا يبدو مصرف لبنان مستعدّاً حتّى اللحظة للتفريط بما تبقّى من احتياطات في سبيل تمويل البطاقة.
لكلّ هذه الأسباب، من الصعب توقّع انطلاق مشروع البطاقة التمويليّة في القريب العاجل، خصوصاً أنّ تمويلها عبر طبع النقد والاستدانة من مصرف لبنان سيطلق عنان موجة إضافيّة من موجات التضخّم المفرط والهبوط في سعر صرف الليرة اللبنانية.
وقد بلغت احتياطات مصرف لبنان حدود 16.64 مليار دولار في نهاية الشهر الماضي، فتكون الاحتياطات القابلة للاستخدام في ذلك الوقت حوالي 440 مليون دولار، فيما يمثّل المبلغُ المتبقّي الاحتياطاتِ الإلزاميّة التي لا يُفترض المساس بها. وبذلك سيكون مصرف لبنان قبل نهاية الشهر أمام خيارين: إمّا المضيّ قدماً في استعمال الاحتياطات الإلزاميّة لتمويل استيراد السلع الأساسيّة، وإمّا رفع الدعم أو تقليصه حتّى حدوده القصوى.
سيكون على مصرف لبنان، خلال الأيام المقبلة، أن يوازن بين كلفتيْن، كلفة فرملة آليات الدعم الحاليّة، مع كل ما سيصاحب ذلك من تضخّم وتداعيات معيشيّة قاسيّة في غياب آليات دعم بديلة، وكلفة صرف ما تبقّى بحوزته من احتياطات إلزاميّة، وتخسير المودعين أموالهم
سيكون على مصرف لبنان، خلال الأيام المقبلة، أن يوازن بين كلفتيْن، كلفة فرملة آليات الدعم الحاليّة، مع كل ما سيصاحب ذلك من تضخّم وتداعيات معيشيّة قاسيّة في غياب آليات دعم بديلة، وكلفة صرف ما تبقّى بحوزته من احتياطات إلزاميّة، وتخسير المودعين أموالهم. قد يضطرّ مصرف لبنان إلى أن يأخذ بعين الاعتبار المسألتين، عبر إبقاء نسبة ضئيلة من الدعم، بما يقلّص قيمة المستنزَف من الاحتياطات الالزاميّة حتّى أقصى حدّ ممكن.
يحيلنا تلقائيّاً الخروج من حقبة الدعم وتعدّد أسعار الصرف إلى إشكاليّة تعويم سعر الصرف، الذي يفترض أن يكون من مهمّات المنصّة، التي أعدّها المصرف المركزي، ويُخطَّط لها أن تنطلق خلال أيام.
باتت التجهيزات التقنيّة واللوجستيّة حاضرة، لكن ما زال الغموض الشديد يكتنف حتّى اللحظة آليّات إدارة السيولة فيها، ومصادر الدولار المطلوب لتدخّل مصرف لبنان في توازنات العرض والطلب. لذلك يُتوقَّع أن تتّجه الأنظار إلى هذه المنصّة فور إطلاقها قريباً، لتتبّع أثرها على سعر صرف الدولار في السوق، ولو كانت الشكوك في أثرها الفعلي جديّة وكبيرة.
3- ملفّ الكهرباء
مع تراجع كمّيات الفيول المتوافرة لدى مؤسسة كهرباء لبنان، بقيت أمام الدولة اللبنانيّة مهلة تُقاس بالأيام لمعالجة أزمة القطاع المزدوجة، التي يتعلّق الجزء الأوّل منها بنضوب الاعتمادات المخصّصة للمؤسسة في الميزانيّة العامّة، وخصوصاً بعدما علّق المجلس الدستوري سلفة الـ200 مليون دولار التي أقرّها مجلس النواب. أمّا الجزء الآخر فيتعلّق بعدم توافر الاحتياطات بالعملة الصعبة القابلة للاستخدام في مصرف لبنان، حتّى في حال التوصّل إلى مخرج لقضية تعليق السلفة. وبالتالي سيكون الحلّ الوحيد مجدّداً مدّ اليد إلى الاحتياط الإلزامي. لكنّ هذا الخيار دونه عقبات كثيرة، تبدأ من الاعتراض المبدئي من المجلس المركزي لمصرف لبنان على هذا الحلّ، وتنتهي بعدم وجود غطاء قانوني واضح وصريح يسمح لمصرف لبنان بالمسّ بهذه الاحتياطات الإلزاميّة.
إقرأ أيضاً: كهرباء 2021: عتمة كلفتها 1.46 مليار من الاحتياط
وكان حاكم مصرف لبنان قد طالب صراحةً بهذا الغطاء قبل استعمال الاحتياطات الإلزاميّة، سواء لدعم استيراد السلع الأساسيّة، أو لتمويل بعض عقود الدولة، ومنها عقود شراء الفيول للكهرباء.
هكذا ستكون قضية الكهرباء على المحكّ خلال الأسبوع المقبل، إلى جانب ملفّات الدعم والمنصّة والكابيتال كونترول، جاعلةً هذا الأسبوع شديد الحساسيّة على مستوى خيارات الدولة الماليّة. المشكلة الأهمّ تكمن في أنّ هذه الخيارات كلّها ستُحسَم الآن بالمفرّق وعلى القطعة، على قاعدة تمرير الوقت بأقلّ أضرار ممكنة، من دون أن تنصبّ في إطار أيّ حلّ تدريجي للأزمة، وهو ما سيطيل أمد الأزمة على المدى الأطول من دون أيّ أفق.