في 20 أيار المقبل يدخل مجلس القضاء الأعلى رسمياً مدار التعطيل، مع انتهاء ولاية الأعضاء السبعة غير الحُكميّين فيه، من دون القدرة على تعيين بدلاء عنهم بسبب صعوبة التوافق على الأسماء وعدم وجود حكومة أصيلة. حتّى تصريف الأعمال لن يكون ممكناً، إذ تتوقّف اجتماعات المجلس وتُشلّ قدرته على اتّخاذ القرارات، وأهمّها إحالة قضاة إلى التفتيش القضائي.
يتألّف مجلس القضاء الأعلى من عشرة أعضاء: ثلاثة منهم من الأعضاء الحُكميين الذين تستمر ولايتهم طالما يشغلون مناصبهم القضائية غير المُحدّدة المدّة، وهم: الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز، النائب العام لدى محكمة التمييز، ورئيس هيئة التفتيش القضائي (يُحال إلى التقاعد بعد عام وشهرين) الذين يعيّنون بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير العدل. وخمسة أعضاء معيّنون بمرسوم في مجلس الوزراء، بناءً على اقتراح وزير العدل، لمدة 3 سنوات غير قابلة للتجديد، إضافة إلى عضويْن منتخبين من قبل رؤساء ومستشاري محكمة التمييز لمدة ثلاث سنوات أيضاً غير قابلة للتجديد.
في ظلّ الفوضى العارمة على المستوى الحكومي والسياسي والأمني والقضائي والمعيشي، يبدو الأمر بديهيّاً ومتوقّعاً، وهو ما يعكس المزيد من مؤشّرات انحلال الدولة وتفكّكها. لكنّ الخطورة أنّ طَيّ ولاية مجلس القضاء الأعلى المعيّن منذ 2018 يتزامن مع كباش قضائي غير مسبوق، “بالوكالة” عن قوى الأمر الواقع السياسي، يتيح فتح “دكاكين” داخل أروقة القضاء، من بين بضائعها الأكثر رواجاً تصفيةُ الحسابات بين القضاة أنفسهم.
في 20 أيار المقبل يدخل مجلس القضاء الأعلى رسمياً مدار التعطيل، مع انتهاء ولاية الأعضاء السبعة غير الحُكميّين فيه، من دون القدرة على تعيين بدلاء عنهم بسبب صعوبة التوافق على الأسماء وعدم وجود حكومة أصيلة
يتقدّم مجلس القضاء الأعلى خطوات نحو الالتحاق بـ”نادي الشلل”، وفي جعبته ثلاث أوراق خاسرة: تشكيلات قضائية “لم تقطع” بسبب فيتو رئيس الجمهورية عليها، “طابور” من القضاة الفاسدين المعروفين بالأسماء الذين لم يُحالوا إلى التفتيش القضائي بعد، ومعركة لم يشهدها تاريخ القضاء بين “المجلس” وبين قاضية متمرّدة، هي غادة عون، قد لا يتوقّف تمرّدها فقط عند رفض الانصياع لقرارات مجلس القضاء الأعلى والشكوى التي رفعتها ضد مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات أمام مجلس شورى الدولة.
مع ذلك، يجزم مواكبون لعمل مجلس القضاء الأعلى أنّ الأخير “عمل في ظروف صعبة جدّاً تخلّلتها نكسة رفض رئيس الجمهورية التوقيع على مرسوم التشكيلات القضائية، التي كان من شأنها أن تضخّ دماً جديداً وإصلاحيّاً في الجسم القضائي يُسهم في التنقية الذاتية. وما شهده القضاء أخيراً في ما يتعلّق بالقاضية عون كشف أحد أسباب رفض الرئيس عون للتشكيلات”.
ينقسم المجلس بحكم التوزيع الطائفي المعتمد (غير المنصوص عنه قانوناً، بل بحكم العرف) مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين من 3 قضاة موارنة، أورثوذكسي واحد، كاثوليكي واحد، شيعيّيْن، سنّيّيْن، ودرزي واحد. وتركيبة الأعضاء الحُكميين تضمّ مارونياً هو اليوم رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، وقاضييْن سنّيّيْن هما مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات ورئيس التفتيش القضائي بركان سعد.
أمّا الأعضاء، الذين تنتهي ولايتهم الشهر المقبل فيفقد المجلس نصابه، هم: روكز رزق، وهيلانة إسكندر، وماهر شعيتو، وإليان صابر، وسهير الحركة. وقد سبقهم القاضي كلود كرم بعد إحالته إلى التقاعد في العام الماضي، والقاضي منذر ذبيان الذي قدّم استقالته بعد ملاحقته تأديبيّاً بتهم فساد.
الأمر المؤكّد أن لا حكومة قبل 20 أيار، حتّى لو حصلت المعجزة فإنّ هناك صعوبة في إقرار التعيين في المدى المنظور.
“تخبزوا بالأفراح”. عبارة يختصر بها مرجع بارز مشهد التعطيل الذي سيضرب أعلى سلطة قضائية بعد أسابيع قليلة. ويقول: “إنّه الفراغ القضائي الذي سيتماهى مع حالة العجز في كل مؤسسات الدولة، لكن حين يصل الشلل إلى رأس الهرم القضائي فالخطورة تكون أكبر بكثير”، مشيراً إلى أنّ “مجلس القضاء الأعلى في الوقت المتبقّي له يجب أن يسرّع عملية إحالة العديد من القضاة، الذين تحوم حولهم شبهات بالفساد، إلى التفتيش القضائي لإجراء الأخير المقتضى وتسريع عملية إحالة المرتكبين إلى المجلس التأديبي، خصوصاً أنّ العديد من ملفات الفساد لا تزال نائمة في الأدراج”.
لكنّ أوساطاً قضائية توضح: “مسار محاسبة القضاة عبر هيئة التفتيش القضائي قائم بمعزل عن وجود أو عدم وجود مجلس القضاء الأعلى، فيتحرّك التفتيش القضائي تلقائيّاً، لكن هذه المرة تدخّل مجلس القضاء الأعلى ليطلب من التفتيش القضائي إجراء المقتضى مع القاضية غادة عون نظراً إلى حساسية الملفّ وتعقيداته”.
يجزم مواكبون لعمل مجلس القضاء الأعلى أنّ الأخير “عمل في ظروف صعبة جدّاً تخلّلتها نكسة رفض رئيس الجمهورية التوقيع على مرسوم التشكيلات القضائية، التي كان من شأنها أن تضخّ دماً جديداً وإصلاحيّاً في الجسم القضائي يُسهم في التنقية الذاتية”
تضيف الأوساط: “هناك مسار آخر من المحاسبة عبر تطبيق المادة 95 من قانون القضاء العدلي، التي تعطي لمجلس القضاء الأعلى بأغلبية 8 من أعضائه وبتوصية من التفتيش القضائي صلاحية عزل القاضي لعدم أهليّته، مع الإشارة إلى أنّه لم تطبّق هذه المادة سابقاً. وفي الحالة الراهنة، هذه الأغلبية غير متوافرة في المجلس غير المكتمل الأعضاء، إضافةً إلى أنّ قاضيتيْن من أعضائه مقرّبتان من العهد، والقاضية عون تحاول تحصين نفسها نوعاً ما بغطاء شعبي”.
وفي الفترة الفاصلة عن دخول مجلس القضاء الأعلى مدار التعطيل، يُتوقّع أن يكون التفتيش القضائي قد قال كلمته في “ملفّ غادة عون” مع وجود احتمال كبير بإحالتها إلى المجلس التأديبي بسبب مخالفتها الصريحة للقوانين والتمرّد على قرارات قضائية.
ويحكى في أروقة قصر العدل عن إحالة قاضٍ آخر من الطائفة الدرزية إلى المجلس التأديبي أيضاً.
إقرأ أيضاً: نهاية غادة عون
وتعليقاً على قرب انتهاء ولاية مجلس القضاء الأعلى تقول أوساط قضائية: “عادةً ما تشلّ السياسةُ القضاءَ، لكن اليوم ستُكرّس حالة الشلل بحكم القانون. وقد بدأ هذا الشلل عمليّاً حين لم يُصَر إلى تعيين قاضييْن مكان القاضييْن منذر ذبيان وكلود كرم، وحين وقف السياسيون بوجه التشكيلات القضائية، وصولاً إلى رفض رئيس الجمهورية استقبال رئيس مجلس القضاء الأعلى، وتحرّك القاضية عون بإيعاز سياسيّ من “مرجعيّتها”…
وفيما بات من المؤكّد أنّ الحلّة الجديدة لمجلس القضاء الأعلى لن تكتمل قبل تأليف الحكومة، فإنّ السلطة السياسية على الأرجح ستحاول من جديد إحكام قبضتها على هذا المجلس الذي أظهر “حالة” من التحرّر النسبي من الحسابات السياسية، وإن كان البعض يتّهم مجلس القضاء الأعلى بأنّه استبدل الولاء السياسي يإعطاء أولويّة للحسابات الشخصية لبعض أعضائه.