“الأجواء صعبةٌ ومُعقّدة”. هذا هو مختصر أجواء محادثات فيينا بعد أسابيع من إشاعة أجواءٍ إيجابيّة من داخل غرف الاجتماع بين إيران ومجموعة الـ4+1 للعودة إلى الاتفاق النّووي. التّعقيدات التي ظهرت أخيراً، ليست مفاجِئة بعد تصريحات وحوادث شهدتها المنطقة في الآونة الأخيرة، بدءاً من “صاروخ ديمونا” الذي انطلق من سوريا إلى محيط مفاعل ديمونا النووي في إسرائيل، وصولاً إلى طائرة حزب الله المسيّرة مساء الثّلاثاء التي أعلن جيش إسرائيل عن إسقاطها، وبينهما صواريخ من قطاع غزّة باتجاه الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل، وقرار إسرائيل بقصف غزّة، وما تشهده مدينة القدس من تظاهرات يوميّاً منذ مطلع شهر رمضان.
ومن “تعقيدات فيينا”، خرجت أنباءٌ عن لقاءٍ سعوديّ – إيرانيّ على مستوى استخباري، عُقِدَ في العاصمة العراقيّة بغداد مطلع الشّهر الحاليّ بعد وساطةٍ عراقيّة قام بها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، بحثَ بشكلٍ أساسيّ في أولى جلساته الملفّ اليمني. وتردّدت أخبار عن التوجّه عقد جلسة ثانية خلال الأيّام المُقبلة، إذا صحّت أخبار الجلسة الأولى.
لكن هل إيران جادّة في محادثاتها في فيينا وبغداد؟
قبل أيّامٍ من زيارته بغداد وقراءة الفاتحة في موقع اغتيال قائد قوّة القدس قاسم سليماني، خرجَ إلى العلن تسريب لوزير الخارجيّة الإيراني، “الوجه المقبول من إيران على مسرح الدّيبلوماسيّة الدّوليّة”، مُحمّد جواد ظريف، الذي يُغادر منصبه بعد أسابيع قليلة مع نهاية ولاية الرّئيس حسن روحاني، ينتقد فيه دور سليماني، إذ اعتبر أنّه “في كل مرّة تقريباً يذهب فيها للتفاوض، كان سليماني يفرض شروطه ويوجّه بأن تُؤخذ نقاط بعينها في الاعتبار”.
وممّا كشفه ظريف أيضاً أنّه بعد الانتهاء من وضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق النووي سنة 2015، حتّى يوم تنفيذه، وقعت أحداث ضد الصفقة بدأت بسفر سليماني إلى موسكو من دون التنسيق مع وزارة الخارجية (وفي هذا اللقاء تمّ إقرار التدخّل الإيراني والحزب اللهي في سوريا)، وانتهت باحتجاز سفينة أميركية، والهجوم على السفارة السعودية في طهران.
من “تعقيدات فيينا”، خرجت أنباءٌ عن لقاءٍ سعوديّ – إيرانيّ على مستوى استخباري، عُقِدَ في العاصمة العراقيّة بغداد مطلع الشّهر الحاليّ بعد وساطةٍ عراقيّة قام بها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، بحثَ بشكلٍ أساسيّ في أولى جلساته الملفّ اليمني
كلام ظريف في هذا التّوقيت يشير إلى أمرين مهمّين لا بدّ من التّوقف عندهما:
الأوّل: رفع المسؤوليّة عن نفسه أمام المجتمع الدّولي، وتحديداً مجموعة الـ4+1. إذ إنّ ظريف أراد أن يقول إنّه غير مسؤول عمّا قد يحصل من أحداث في الفترة المُقبلة، ولا يملك الصّلاحيات الكاملة للعودة إلى الاتفاق على الرّغم من الرّغبة الموجودة لديه ولدى حسن روحاني.
الثّاني والأهمّ: على العالم الاستعداد للتعامل بشكلٍ مباشر مع الحرس الثّوري ووجوهه الشّبيهة بقاسم سليماني. إذ إنّ الاتفاق لن يولَد مجدّداً مع حكومة روحاني المُغادِرة.
“القنبلة الإعلاميّة”، التي فجّرها ظريف، تؤكّد أنّ بلاده غير جدّيّة في أيّ تفاوض في الوقت الحاليّ، إن في فيينا مع المجموعة الدّوليّة أو مع السّعوديين في بغداد. ويؤكّد هذا الكلام ما خَرَج من أجواءٍ سلبيّة من العاصمة النّمساويّة خلال الأيّام الماضية. وفي معلومات خاصّة لـ”أساس”، أنّ طهران طلبت إلى واشنطن رفع الحرس الثّوري عن قوائم المنظّمات الإرهابيّة، إذ إنّه من المحتمل أن يصل جنرال سابق من صفوفه إلى سدّة الرّئاسة، وهذا ما يُصعّب طبيعة التّعامل بين البلدين بعد الانتخابات. هذا الطّلب لم يلقَ قبولاً عند الأميركيّين الذين لا يربطون الأمر بالاتّفاق النّوويّ.
وقد تزامن رفض الطّلب الإيرانيّ بشأن الحرس الثّوري، وتعقيد محادثات فيينا، مع أحداثٍ أمنيّة وسياسيّة لا بُدّ من التّوقّف عندها، باعتبارها تشير إلى تنامي التّوتّر في المنطقة:
أوّلاً: الصّاروخ الإيراني الذي أُطلِقَ من الدّاخل السّوري نحو منطقة ديمونا جنوب فلسطين المُحتلّة، التي تضمّ المفاعل النّووي الإسرائيلي.
ثانياً: الصّواريخ التي أُطلقت من غزّة على مدى أيّامٍ، والتي استدعت نقل الجيش الإسرائيلي وحدةَ “غولاني” (فرقة النخية في الجيش) إلى حدود القطاع، وتوجيه رسالة شديدة اللهجة إلى حركة “حماس” عبر الأمم المُتّحدة (بعدما جرت العادة أن يكون تبادل الرّسائل عبر مصر)، مُفادها أنّ تل أبيب ستردّ ردّاً غير مسبوق إذا استمرّ إطلاق الصّواريخ. وفوّض مجلس الوزراء الإسرائيلي المُصغّر “الكابنيت” إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدّفاع بيني غانتس تقويم الوضع لاتّخاذ قرار شنّ حملة عسكريّة على غزّة إذا استمرّ إطلاق الصّواريخ.
ثالثاً: زيارة مستشار الأمن القومي الإسرائيلي مائير بن شبات ورئيس الموساد يوسي كوهين إلى واشنطن، ولقاؤهما مستشار الأمن القومي جايك سوليفان ووليام بيرنز في مقرّ السّفارة الإسرائيليّة.
“القنبلة الإعلاميّة”، التي فجّرها ظريف، تؤكّد أنّ بلاده غير جدّيّة في أيّ تفاوض في الوقت الحاليّ، إن في فيينا مع المجموعة الدّوليّة أو مع السّعوديين في بغداد
مصدر أميركي لـ”أساس”
وبحسب ما أشار مصدرٌ أميركيّ مسؤول لـ”أساس”، فقد أكّد الوفد الإسرائيلي للأميركيين أنّ تل أبيب ستتحرّك تجاه البرنامج النّووي الإيراني، وبرنامج الصّواريخ الباليستيّة والطائرات المُسيّرة، وتمنع وصول هذه الأسلحة إلى حلفاء طهران، وفي مقدّمهم حزب الله. وسلّم الوفد الإسرائيلي الجانب الأميركي معلومات استخباريّة وُصِفَت بالحسّاسة تتعلّق بهذه البرامج. وأشارَ المصدَر إلى أنّ سوليفان أبدى “تفهّم الرّئيس الأميركي جو بايدن للقلق الإسرائيلي”، مؤكّداً أنّه “يدعم ما سمّاه حقّ الإسرائيليين بالدّفاع عن مصالحهم ووجودهم”.
رابعاً: زيارة مدير وكالة الاستخبارات الأميركيّة ويليام بيرنز إلى بغداد، التي غادرها مع وصول محمد جواد ظريف إليها. وبحسب معلومات خاصّة بـ”أساس” فإنّ بيرنز يسعى لفتح قناة تواصل غير مباشر مع الإيرانيين من دون التّنسيق مع وزارة الخارجيّة، التي لم تنجح حتّى الآن في التّفاوض بشكلٍ مباشر مع الإيرانيين على الرغم ممّا قدّمه الوزير أنتوني بلينكن والمبعوث الخاص إلى إيران روبرت مالي للإيرانيّين من عروضٍ وصلت إلى حدّ عرض الإفراج عن 9 مليارات دولار من كوريا الجنوبيّة واليابان. وأكّدت المعلومات أنّ بيرنز لم يلتقِ بأيّ مسؤولٍ إيرانيّ، بل اكتفى برسائل نقلها عبر وزير الخارجيّة العراقيّ فؤاد حسين إلى محمّد جواد ظريف.
خامساً: محاولة الميليشيات الحوثيّة استهداف ميناء يُنبُع السّعودي على البحر الأحمر بزورق مُفخّخ مُسيّر عن بُعد، تمكّنت قوّات التحالف من تدميره قبل الوصول إلى هدفه.
سادساً: تحرّش زوارق تابعة للحرس الثّوري الإيراني بسفينة عسكريّة أميركيّة في مياه الخليج العربي، وإطلاق رشقات تحذيريّة من طاقم السّفينة الأميركيّة.
سابعاً: إطلاق حزب الله طائرةً مُسيّرة في أجواء شمال فلسطين المُحتلّة، وإعلان الجيش الإسرائيلي إسقاطها أمس الأوّل.
ثامناً: استهداف قاعدتيْ فيكتوريا وبلد الجوّيّتين، اللتين تضمّان جنوداً أميركيّين قرب بغداد، برشقات صاروخيّة من قبل ميليشيات تتبع للحرس الثّوري الإيراني.
بحسب ما أشار مصدرٌ أميركيّ مسؤول لـ”أساس”، فقد أكّد الوفد الإسرائيلي للأميركيين أنّ تل أبيب ستتحرّك تجاه البرنامج النّووي الإيراني، وبرنامج الصّواريخ الباليستيّة والطائرات المُسيّرة، وتمنع وصول هذه الأسلحة إلى حلفاء طهران، وفي مقدّمهم حزب الله
سيناريو 2006؟
ما تشهده المنطقة من أحداثٍ تُشبه إلى حدٍّ كبير أحداث عام 2006، عندما كانت إيران ترزح تحت ضغوط دوليّة جعلتها تنتقل من “المناورة السّياسيّة إلى استعراض القوّة”، الذي أدّى آنئذٍ إلى تفجير جبهتيْ قطاع غزّة وجنوب لبنان بعد أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود القطاع وجنديّيْن على الحدود مع لبنان. والجدير بالذّكر أنّ الإصلاحيين كانوا حينئذٍ خارج السّلطة في إيران، كما سيحدث بعد شهرين من اليوم، عندما يتولّى التّيّار المُقرّب من الحرس الثّوري الإيراني زمام الأمور في طهران.
إقرأ أيضاً: هل ينسُف نتنياهو الإيجابيّة الإيرانية “المستغربة” أميركياً
الأمور في بغداد قد لا تختلف كثيراً عنها في فيينا، فتصرّفات إيران الأخيرة لا تدلّ على جدّيّة في الوصول إلى حلول في المنطقة. وعلى الرّغم من كلام وليّ عهد المملكة العربيّة السّعوديّة الأمير محمّد بن سلمان، في مقابلته ليل الثّلاثاء، عن إرادة بلادِه لعلاقاتٍ “مُزدهرة” مع إيران، إلّا أنّه ربطَ الأمرَ بتصرّفاتها في المنطقة. ويؤكّد كلام وليّ عهد السّعوديّة أنّه يدعو إيران إلى أن تتصرّف كدولة طبيعيّة بعيداً عن منطق تصدير الثّورة ودعم الميليشيات وزعزعة استقرار الدّول العربيّة، في مُقابل الوصول إلى علاقات طبيعيّة مع المملكة.
الأمر واضحٌ لدى السّعوديّين، فهم اختبروا الإيرانيين سابقاً ويعلمون أنّهم لا يلتزمون بأيّ اتفاقٍ لا يكون الحرس الثّوري طرفاً فيه. ولهذا كان لقاء بغداد على المستوى الأمنيّ بين البلدين، ونجاحه مرهونٌ بتغيّر تصرّفات إيران التي لا يبدو أنّها ستختلف كثيراً، وهذا أمرٌ جليّ تعكسه سياسات طهران في لبنان وسوريا والعراق واليمن.
الإيرانيّون حزموا أمرهم: “الحرس الثّوري سيُفاوض”. وإلى حين انقضاء الانتخابات الرئاسيّة وترتيب الأمور الدّاخليّة، لا أحد يعلم أيّ لغمٍ ستفجّره إيران لمحاولة جمع أوراق قوّة، واستعراض عضلاتها. وعليه، سيكون أمن المنطقة، من المتوسّط إلى الخليج، رهيناً بالطّموحات الإمبراطوريّة للحرس الثّوري الإيراني الذي يمتهن التفجير قبل الجلوس إلى طاولة مفاوضات جدّيّة ومثمرة لا يبدو أنّها ستكون في القريب العاجل على الإطلاق.