تضمّن خطاب النائب جبران باسيل الأخير دعوة علنيّة وصريحة لـ”تشكيل لبنان سريعاً وفد تفاوض (جديداً) برئاسة ممثّل عن رئيس الجمهورية وعضوية ممثلين عن رئيس الحكومة والخارجية والأشغال والطاقة والجيش لاستكمال التفاوض مع إسرائيل، ومراجعة التفاوض مع قبرص، وبدء التفاوض مع سوريا، وفق معيار واحد وطريقة واحدة بترسيم الحدود”.
لا تعني هذه الدعوة في الشكل سوى “الاستغناء عن خدمات” الوفد العسكري – التقني بصيغته الحالية، برئاسة نائب رئيس أركان الجيش للعمليات العميد الركن بسام ياسين، وعضوية العقيد الركن البحري مازن بصبوص، والخبير في القانون الدولي لترسيم الحدود نجيب مسيحي، ورئيس وحدة الجيولوجيا والجيوفيزياء في هيئة إدارة قطاع البترول وسام شباط. ويطرح الذهاب نحو خيار توسيع عدد أعضاء الوفد.
وجّه باسيل سلسلة رسائل في الاتجاهات كافة، كان أبرزها ما لم يذكره نائب البترون في مؤتمره، وهي المعركة التي يخوضها الجيش سياسيًا وإعلاميًا عبر الندوات في الجامعات ومراكز الأبحاث لحشد الدعم الشعبي للمطلب الحدودي
هذا الوفد جَهِد “الثنائي الشيعي” قبل بدء التفاوض مع إسرائيل في تشرين الأوّل الفائت كي يكون “منزوع التمثيل المدني” قطعاً للطريق “أمام أيّ إيحاء بالتطبيع”، وذلك عبر رفض تعيين المدير العام لرئاسة الجمهورية أنطون شقير رئيساً للوفد، والضغط لتشكيل وفد عسكري محض. ونتذكّر البيان الشهير الذي أصدره ثنائي “حزب الله – حركة أمل” فجر جلسة التفاوض الأولى في 14 تشرين الأوّل 2020.
حتّى إنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب اعترض آنذاك على “تشكيلة” الوفد استناداً إلى المادة 52 من الدستور التي توجب على رئيس الجمهورية “التوافق مع رئيس الحكومة على تأليف وفود التفاوض الخارجي”.
وهنا تبرز مفارقة فاضحة: فعون أدار ظهره لمطلب دياب آنذاك لكون الحكومة في مرحلة تصريف أعمال، لكنّه عاد وطلب من الحكومة نفسها أن تجتمع لاتّخاذ قرار بالموافقة على تعديل المرسوم 6433، الذي يمنح لبنان 1430 كلم مربعاً إضافية، فيما خيار الموافقة الاستثنائية على المرسوم لا يزال متاحاً أو خيار بعث رسالة إلى الأمم المتحدة تفيد بتغيير لبنان لإحداثياته.
أمّا في مضمون المؤتمر فتعني دعوة باسيل توسيعاً لبيكار “جبهات” التفاوض وإعادة خلط أوراق ملفّ الترسيم البحري، التي لم يقابلها حتّى الآن أيّ موقف رسمي من جانب الجيش والرئيس نبيه بري وحزب الله. فيما ستنعكس حتماً مزيداً من التأخير الداخلي في إعادة وضع الملفّ على السكّة بعد وقف المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل.
أوحى باسيل أنّ الاقتراحات التي قدّمها تخصّ حزبه فقط. لكنّ المطّلعين يؤكّدون أنّها تعكس خارطة طريق تعاطي الرئاسة الأولى مع ملف الترسيم في المرحلة المقبلة. وقد مهّد الرئيس عون لذلك بحديثه قبل أيّام عن الاستعانة بخبراء دوليين وإيجاد توافق وطني على الملفّ.
ويجزم هؤلاء أنّ برّي، الذي عبّر أمام سائليه عن استيائه من “الإدارة الجديدة” لملفّ الترسيم عبر رئاسة الجمهورية، لن يكون بوارد الموافقة – ومثله حزب الله – على “تطعيم” الوفد الحالي بمدنيّين في جلسات التفاوض غير المباشر مع الإسرائيليين.
ووجّه باسيل سلسلة رسائل في الاتجاهات كافّة، كان أبرزها ما لم يذكره نائب البترون في مؤتمره، وهي المعركة التي يخوضها الجيش سياسياً وإعلامياً عبر الندوات في الجامعات ومراكز الأبحاث لحشد الدعم الشعبي للمطلب الحدودي. والهدف هو تثبيت أحقية لبنان ببدء التفاوض من الخطّ 29 بناءً على دراسة الجيش المتماهية بشكل كبير مع استشارة مكتب الهيدروغرافيا البريطاني (UKHO)، ودراسة أخرى للخبير المستشار في محكمة العدل الدولية نجيب مسيحي. وكلّها تمنح لبنان مساحة إضافية في المياه اللبنانية الخالصة تتجاوز 860 كلم مربعاً، أي جنوبي الخط 23.
باسيل يطالب بتغيير وفد التفاوض مع إسرائيل ويضع خارطة طريق الترسيم نيابة عن رئاسة الجمهورية
أبعد من ذلك، ردّ باسيل بشكل مبطّن على جوهر خطاب الجيش في الآونة الأخيرة، خصوصاً في مرحلة جَمع التواقيع على المرسوم 6433.
فقد سبق أن اتّهم رئيس الوفد العميد ياسين، خلال الندوات المتنقّلة في المناطق، القوى السياسية بـ”الخيانة”، بسبب التقاعس عن توقيع المرسوم الذي يقوّي موقف الوفد المفاوض. وقال في إحدى الندوات: “نحن عسكر نذهب إلى المعركة بغرض كسبها. المفاوضات هي حرب”.
أمّا باسيل فطالب بـ”تحسين وضعنا التفاوضي ووضع الخط 29 على الطاولة، ولكن ليس للحدّ الذي يجعل أيّ تنازل عن مليمتر هو خيانة وطنية. لا أحد يسعى إلى خلق مزارع شبعا بحريّة. والتخاذل يكون بعدم القيام بكل شيء لنحصّل “بالقليلة” الحقل الحدودي في البلوك 9. الموضوع هو إذاً للتفاوض ومش للحرب”.
في الواقع تحسين شروط التفاوض هو الركيزة الأساسية في استراتيجية الجيش، لكن وفق أسس تقوّي موقف لبنان ولا تضعفه، وعلى أساس التفاوض بين الخطّ 1 والخطّ 29، وبشرط المناقشة المشتركة بين الخبراء الدوليين وبين الوفد المفاوض اللبناني على أساس القانون الدولي وتقنيات الترسيم المعتمدة رسمياً وضمن مهلة محدّدة.
وفيما أكّد باسيل أنّ “الملف بدأ جدّياً معنا، ولليوم لم نسمح لأحد أن يفرّط فيه”، حمّل الجميع، من الرئيس نبيه بري إلى الحكومات المتعاقبة، مسؤولية الإدارة السيّئة له، مشيراً إلى “تقاعس المسؤولين عشرات السنين بسبب الكسل والجهل والخوف من الخارج، وآخر تقاعس كان تأخير مراسيم بلوكات البحر من 2013 إلى 2017”.
وقال باسيل : “في موضوع الحدود كتار يلّي غلّطو. هناك من رَفَضَ التفاوض الحدودي مع سوريا. وبالنسبة إلى مَن فاوضَ مع قبرص من موظفين “وطلوع”، هناك رئيسان للحكومة رفضا التوقيع مع قبرص حتّى ما يزعلوا (الرئيس التركي رجب طيب) أردوغان، وهناك مَن رسّموا الخط 23 على أسسٍ مشبوهة، ومَن ضغط على رئيس الجمهورية لتوقيع مرسوم ملغوم أو محاولة إيقاعه في الفخّ عبر دفعه ليبعث رسالة إلى الأمم المتحدة”. وهي تهمة تطول مباشرة الجيش ومستشار ميشال عون السابق طوني حداد، اللذين ضغطا قبل بدء التفاوض من أجل تحصين موقف الوفد عبر هذه الرسالة.
وحدّد نائب البترون، بالنيابة عن رئاسة الجمهورية، 3 أسس لمعاودة التفاوض مع إسرائيل:
1- وقف إسرائيل أعمال التنقيب والإنتاج في المناطق المتنازع عليها، إذ قال باسيل: “إسرائيل عندها كتير آبار عم تستثمرهم، ولبنان ما بلّش بولا واحد، فما بيصير شي إذا إسرائيل ما بلّشت بواحد من آبارها، مقابل كلّ التأخير يلّلي تسبّبت فيه للبنان”. يبدو افتراض حسن النية من الجانب الإسرائيلي بالتجاوب مع “المطلب اللبناني” أمراً في غاية الغرابة، وكأنّ “الاقتراح الباسيلي” موجّه لدولة توزّع “الأعمال الخيرية” على حساب مصالحها ومشاريعها التوسّعية والعدوانيّة.
إقرأ أيضاً: حكاية ترسيم الحدود البحريّة.. وسرّ الهاشتاغ
2- إهمال الخطّين 1 و23، والاتفاق على خطّ جديد بين خط Hoff والخطّ 29، الوحيدين اللذين يعتمدان مبدأ “خط الوسط” نفسه، مقترحاً أن “يعيد ترسيم خطّ هوف خبراء دوليون، والاتفاق مع شركة أميركية متخصّصة”. وبوضوح أكثر، قال باسيل: “يأخذ هذا الخطّ بالاعتبار نسبة تأثير (لجزيرة تيخيليت) بين 0 أو 100%، مؤدّياً إلى حفظ حقل لإسرائيل (كاريش) وحفظ حقل للبنان في البلوك 9، وهو الحقل المفترض تسميته خط قانا”. فائض الثقة من قبل باسيل بتقسيم البلوكات وتحديد “الحقوق” اللبنانية مستغرب، فيما دراسة الجيش تسحب نصف حقل كاريش من يد إسرائيل.
3- إدخال عامل إضافي لرسم الحدود هو عامل تقاسم الثروات عبر طرف ثالث، أي شركة أو تحالف شركات عالمية ينفّذ عملية الإنتاج وتوزيع الحصص بين الطرفين المتخاصمين، عبر اتفاقين منفصلين مع الشركة. واعتبر باسيل أنّ”الحدود خارج المياه الإقليمية هي حدود اقتصادية وليست سياديّة، وبيعمل فيها الواحد مصلحته الاقتصادية. والحلّ، الذي لم يفهمه البعض، هو التزاوج بين الحدود والثروة الذي سيحلّ المشكلة”.