حكاية ترسيم الحدود البحريّة.. وسرّ الهاشتاغ

مدة القراءة 7 د

من أين جاء الحديث عن خط بحريّ جديد؟ وما حقيقة معرفة بعبدا أو جهلها بتفاصيل ملفّ الحدود البحرية جنوباً؟ ومن يسعى إلى تحميل قيادة الجيش مسؤولية الخلل الذي أصاب موقف لبنان الرسمي من هذه القضية؟ ولماذا؟

أسئلة مخفية في وقت لا يزال اقتراح تعديل مرسوم الترسيم، 6433، في أدراج قصر بعبدا بعد زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هايل إلى بيروت.

‎الأجوبة تستدعي رواية تطوّرات الموقف اللبناني في السياق الزمني للقضية، خطوةً خطوة، بعد أحاديث مستفيضة مع مرافقين لهذا الملفّ من بدايته إلى حين تعليقه أخيراً.

بداية من الجيش

يبدأ سياق هذا الملف من موقف المؤسسة العسكرية منذ بداية التفاوض مع الجهات الدولية. في حينه كان الجيش يقول إنّ معطياته تشير إلى حقّ لبنان بمنطقة اقتصادية خالصة تمتدّ إلى جنوب الخطّ 23. ويؤكد الجيش دوماً وتكراراً أنّ دوره تقنيّ تنفيذيّ فيما الدور التقريريّ للسلطة السياسية.

 بين عاميْ 2018 و2020، شهد الملفّ تطوّرات عدّة أدّت إلى تحريكه محلياً ودولياً.  فالمكتب البريطاني الهيدروغرافي (UKHO) أنجز دراسة لصالح لبنان، بناءً على معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، حدّد فيها الحدود الجنوبية على الخطّ 29، الذي يعطي لبنان نحو 1460 كلم مربعاً جنوبي الخطّ 23 المعتمد رسمياً بموجب مرسوم سنة 2011. وبالتزامن مع الدراسة، بادر رئيس الجمهورية ميشال عون إلى تعيين السيد أنطوان حداد مستشاراً له لمتابعة الملف.

 أثناء مشاركة لبنان عبر وزارة الطاقة وهيئة إدارة النفط في مؤتمريْن بحثيّيْن في قبرص وسويسرا، تعرّف الوفد اللبناني على نجيب مسيحي، أحد الخبراء الدوليين في الملف، والذي أنجز دراسات قانونية مطابقة للخطّ 29، وهي النتيجة نفسها التي توصّلت إليها أطروحة العقيد مازن بصبوص من الجيش اللبناني.

يبدأ سياق هذا الملف من موقف المؤسسة العسكرية منذ بداية التفاوض مع الجهات الدولية. في حينه كان الجيش يقول إنّ معطياته تشير إلى حقّ لبنان بمنطقة اقتصادية خالصة تمتدّ إلى جنوب الخطّ 23. ويؤكد الجيش دوماً وتكراراً أنّ دوره تقنيّ تنفيذيّ فيما الدور التقريريّ للسلطة السياسية

وعليه، أُلِّفت خليّة عمل من أنطوان حداد، نجيب مسيحي، ومازن بصبوص عن المؤسسة العسكرية، لاعتماد الخط الجديد. فكان مقرّ الاجتماعات في قصر بعبدا، الذي تحوّل إلى غرفة عمليات لمتابعة الخرائط والمستندات المتعلّقة بالحدود البحرية وصيغ تعديل المرسوم 6433.

وبعد سلسلة اجتماعات في بعبدا اتُّفِق على اعتماد الخط 29 في المفاوضات. فاتُّخِذ القرار بضرورة التنسيق مع الأميركيين، وتوفير جوّ أميركي مواكب للموقف اللبناني الجديد. ولهذا الغرض عمل ناشطان (في تشكيل “لوبي”) في واشنطن في الوقت عينه، أحدهما أنطوان حداد، الذي عمل لصالح رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، بلا أيّ بدل مالي، وثانيهما ماريو لاسالا الذي عمل لصالح الوزير جبران باسيل، لقاء 20 ألف دولار أميركي، كما تشير التسجيلات الرسمية على موقع وزارة العدل الأميركية.

 

العقوبات على باسيل

بناءً عليه، لو كان فعلاً الرئيس عون لا يعلم بما يقوم به حداد في الولايات المتحدة الأميركية باسمه لكان بإمكانه مقاضاته بتهمة انتحال الصفة، وهذا ما لم يحصل.

فجأة أُدرج رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل على لائحة العقوبات الأميركية في تشرين الأوّل الماضي، وبموجب قانون ماغنتسكي تحديداً، فظهر الخلاف بينه وبين مستشار عون أنطوان حداد. ثم خرج حداد بعد الخلاف ليقول علناً إنّ باسيل يستخدم ملف الحدود البحرية ورقة تفاوضية مع الأميركيين لا غير. فردّ باسيل بأنّه سيدّعي على حداد حزبياً، وسيلجأ إلى القضاء الأميركي لتبرئة اسمه.

إقرأ أيضاً: باسيل يغازل الأميركيين: ترسيم الحدود هو الأساس؟

‎ونتيجة هذا الوضع المستجدّ، جُمِّد مشروع تعديل المرسوم 6433، القاضي بتوسيع الحدود البحرية الجنوبية إلى الخط 29، في بعبدا التي سبق أن عملت عليه. وأُلغي الخيار بأن يوجّه الرئيس عون كتاباً رسمياً إلى الأمين العام للأمم المتحدة، يبلغه بموجبه الإحداثيات الجديدة لحدودنا الجنوبية، وذلك بعدما كانت الرسالة قد كُتبت ووُقِّعت من عون في الخامس عشر من أيلول الماضي.

بناء عليه، لو كان فعلاً الرئيس عون لا يعلم بما يقوم به حداد في الولايات المتحدة الأميركية باسمه لكان بإمكانه مقاضاته بتهمة انتحال الصفة، وهذا ما لم يحصل

‎في شهر تشرين الأول أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري اتفاق الإطار، وانتقل الملف من عين التينة إلى قصر بعبدا. فشُكِّل الوفد المفاوض، وأصرّ فريق رئيس الجمهورية على توسيع الوفد ليضمّ مدنيّين، فانضمّ إلى الوفد وسام شباط المقرّب من الوزير جبران باسيل، ونجيب مسيحي، بالاضافة إلى العقيد بصبوص عن قيادة الجيش. وقد تعذّر تحقيق إرادة فريق رئيس الجمهورية بأن يكون أنطوان شقير رئيساً للوفد، وهادي هاشم، مدير مكتب باسيل، عضواً فيه، لضمان ثبات الموقف اللبناني على التمسّك بالخط 29.

 

المفاوضات في الناقورة

في 14 تشرين الأوّل بدأت المفاوضات في رأس الناقورة، وكان الوفد المفاوض يجتمع مع الرئيس عون قبل الاجتماعات وبعدها لإطلاعه على تفاصيل المفاوضات، كما تؤكّد بيانات إعلامية صدرت عن المكتب الإعلامي للرئاسة. الأمر الذي ينفي عدم معرفة القصر الجمهوري بتفاصيل المفاوضات وبتمسّك الوفد اللبناني بالخط 29 فيها.

بعد أسبوعين على انطلاق المفاوضات، التقى عون في بعبدا قيادة اليونيفيل، وأصدر بياناً رسمياً أكّد أنّه هو من أعطى تعليمات إلى الوفد المفاوض بالانطلاق من مبدأ عدم إعطاء أيّ تأثير للجزر الجنوبية، وهو ما يدلّ على تمسّك عون بالخط 29 خطّيّاً وإبلاغ قوات الأمم المتحدة بذلك.

في جلسة المفاوضات الثالثة اعترض الجانب الإسرائيلي على تمسّك لبنان بالخط 29… فتوقّفت المفاوضات.

‎أمّا الحديث عن الخط الجديد، الذي يُدعى خط قانا، ففي الواقع لا خطَّ يدعى حتى الساعة خط قانا، بل هو بلوك سُمِّي باسم البلدة الجنوبية قانا.

‎أمّا الخط الجديد فهو بدأ بسؤال طرحته بعبدا على الوفد اللبناني عن الاحتمالات النظرية لعملية التفاوض. فكان الجواب أنّ إسرائيل تنطلق، نظرياً، من إعطاء نتوء “تيخيلت” الصخري تأثيراً بنسبة 100%، فرسمت الخط 1. أمّا لبنان فينطلق من قاعدة قانونية صلبة بصفر تأثير لـ”تيخيلت”، فرسم الخط 29. فإذا قرّرت سلطة ما الوصول إلى تسوية، فسترسم خطاً ثالثاً، سيكون حتماً جنوبي الخط 23 السابق.

‎واستند الجواب النظري هذا إلى تجربة لبنان السابقة مع خط هوف، الذي نشأ من تسوية بين خطّين، هما خط 23 وخط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وهو ما كان مقبولاً في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، التي دُعِيت يومئذٍ “حكومة حزب الله”.

أمّا الحديث عن الخط الجديد، الذي يُدعى خط قانا، ففي الواقع لا خطَّ يدعى حتى الساعة خط قانا، بل هو بلوك سُمِّي باسم البلدة الجنوبية قانا

 

السلطة السياسية تقرّر الخطّ الثالث

تؤكّد المعلومات المواكبة لموقف الجيش في ملف الحدود الجنوبية أن لا خطّ ثالثاً اكتشفه، بل السلطة السياسية هي المولجة الموافقة أو عدم الموافقة على خطّ ثالث يمكن أن يكون موضع تسوية مع الأميركيين: “فاذا أراد الرئيس عون أن يوقّع تعديل المرسوم 6433، يمكنه أن يوقّع، وما على الجيش إلا أن يلتزم تقنيّاً، وإذا أرادت السلطة السياسية مجتمعةً الوصول إلى تسوية، فلتفعل من دون لصق تهمة التنازل عن الحقّ بسواها”، يقول العالمون بكواليس ملف التفاوض.

هل تعلن دراسات المؤسسة العسكرية الوصول إلى خطّ ثالث جديد وتدعوه خط قانا؟

يجيب متابعون لهذا الملف بأنّ الحياة السياسية اللبنانية، التي لا تقبل كسر فريق سياسي لصالح آخر، وتجد دائماً التسويات على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، ستجد مخرجاً لهذه الأزمة. قد تكون التسوية بأن يوضع الملف لدى المؤسسة العسكرية للعمل على إيجاد خطّ ثالث. إلا أنّ ذلك سيكون بغطاء سياسي جامع، ولن يعني رمي ثقل الملف على عاتق قيادة الجيش.

إقرأ أيضاً: ترسيم الحدود على “نار حامية”.. واتصالات “توسّل” من سياسيين لبنانيين إلى واشنطن!

ويختم العالمون بكواليس مرسوم الحدود، بالقول: “أُطلق هاشتاغ # وقّع_يا_نجار قبل وصول هايل إلى بيروت. يعرف الجميع خلفيّاته. لكن بعد زيارة هايل، قرّر الجميع التنصّل ممّا جرى. من أطلق الهاشتاغ هو الذي أوقف هجومه. ومن استهدفه الهاشتاغ تجاهله… بينما كلّ الحقيقة تكمن في قصّة ذاك الهاشتاغ اليتيم.

 

مواضيع ذات صلة

“الحزب” لرئيس الحكومة: إصرِف من جيْب الحكومة!

بين الميدان وغرف المفاوضات المُحصّنة في تل أبيب و”الثلاثاء الأميركي الكبير”، سقطت الرهانات على وقف لإطلاق النار يسبق فتح صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة الأميركية….

لبنان يدخل العصر الأميركيّ؟

لطالما كان وجود الأميركيين العميق في لبنان، حيث تأسّس الحزب، عنواناً جذّاباً للبحث والنقاش، لا سيما أنّ العلاقة بينهما وبين كلّ منهما بالمكوّنات الأخرى، تغيّرت…

المبادرة الأردنيّة في طور الاستيضاح والاستيضاح المضادّ: من وراءها؟

من خارج سياق التوقّعات والتقديرات الدبلوماسية، ارتفع منسوب التفاؤل خلال الساعات الماضية بعد تسريب ما وصفه الإعلام الإسرائيلي بمسوّدة اتّفاق خطّه الموفد الأميركي آموس هوكستين…

هل تتبدّل اليونيفيل أم يتمّ توسيع صلاحيّاتها؟

تتزايد ضغوط الولايات المتحدة الأميركية بقوّة لإيجاد تنميط مختلف للقرارات الدولية، خاصة حول  دور قوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب اللبناني التي تميل واشنطن إلى…