أنا الجنرال ميشال عون. الرجل الذي سطع نجمه وتوهّج بريقه في زمن الضباط والجنرالات والانقلابات العسكرية. أظنّني حفرتُ اسمي بالأزاميل في جمجمة الفريق أول طيّار حافظ الأسد. وقد وددتُ يومذاك أن أكسرها. لكنّه أكثر منّي خبرةً وبطشاً وعناداً ونفوذاً وتجاربَ ونجوماً ورُتباً. كانت معركة ارتطام جماجم بين عنيد فتيّ وعنيد متمرّس. ولأنّ الغلبة هنا لا تُقاس بالنتيجة، بل بالشجاعة، فقد أعلنتُ انتصاري، بينما كنت أهرول هارباً من قصر بعبدا إلى السفارة الفرنسية في بيروت، تاركاً من تركتُ خلفي، غير آبهٍ بجبل من جثث الرفاق وبحر من دماء الحالمين الواهمين.
نظيري في الوزن والموقع والزمالة، كان معمّر القذافي، العقيد المتجاسر التوّاق الذي نصّب نفسه ملكاً فوق ملوك أفريقيا، ثم ظلّ يأمر بتعليق اللافتات في شوارع الجماهيرية العظمى، من طرابلس غرباً إلى بنغازي شرقاً، وقد كتب على معظمها مقولته الشهيرة: “طزّ بأميركا”. قبل أن يعود ويلفظ أنفاسه الأخيرة في المجرور، وقد بدت على جثّته وقتذاك شواهدُ توثّق السحل والطعن والركل والتشويه والاغتصاب. المفارقة أنّه قُتل على يد أهله وناسه. أولئك الذين هدّد بسحقهم وإبادتهم في كل زنقة وفي كل دار.
أنا الجنرال ميشال عون. الرجل الذي سطع نجمه وتوهّج بريقه في زمن الضباط والجنرالات والانقلابات العسكرية
أنا الجنرال ميشال عون. هي عبارة مستقاة من أنظمة بائدة وأزمنة هالكة. أزمنة غابرة استمدّت حيويّتها وصورتها ورمزيّتها من الثياب المرقّطة والأوسمة المرصوفة والنجوم البرّاقة. أزمنة الجنرالات والجزمات والجماجم المتحجّرة. أزمنة الرجعيّة القصوى التي سمحت للمهيب ركن صدام حسين أن يتسلّى بشنق الخونة وتصفية المعارضين بأكثر الطرق بشاعةً على الإطلاق، قبل أن يقرّر بمزاجية منقطعة النظير أن يجتاح الكويت على نحو مباغت وغير مسبوق.
جميعهم، باستثناء قلّة قليلة جدّاً، كانوا يقرأون في كتاب واحد ويشربون من نبع واحد. وقد أفنى ريمون إدّه نصف عمره وهو يقاتل بلا هوادة ضدّ حكم العسكر ونفوذهم وتوسّعهم نحو لبنان. وحين حاول غسّان تويني ثنيه عن قراره بالترشّح بوجه اللواء الاستثنائي فؤاد شهاب لرئاسة الجمهورية، أجابه ساخراً: “يا عيني عليك شو بتفهم بالديموقراطية. أنا على يقين من فوزه. لكنّني أترشّح بوجهه لأثبت في هذا المحيط العسكريتاريّ أنّ قائد الجيش في لبنان يترشّح في المجلس النيابي بدل القيام بانقلاب، وأنّ ثمة نوّاباً لا تزال لديهم حرية الاقتراع ضد ترشيحه”.
أنا الجنرال ميشال عون. هي عبارة مستقاة من أنظمة بائدة وأزمنة هالكة. أزمنة غابرة استمدّت حيويّتها وصورتها ورمزيّتها من الثياب المرقّطة والأوسمة المرصوفة والنجوم البرّاقة
لا شيء في جعبة ميشال عون سوى استحضار هذه الصورة النمطيّة التي ولّى عليها الزمن. صورة الجنرال الصلب. الرجل العنيد. الديكتاتور المنمّق. وهي صور مقيتة ما عادت تستوي أساساً مع الجنوح الكونيّ المتعاظم نحو تطوير الأنظمة المدنيّة وتفعيل الأحزاب السياسية والحوكمة الرشيدة وتعزيز مكانة الحريات والديموقراطيات وإعلاء شأن الإنسان ومكانته وكرامته، بدل السطو على السلطة عبر الانقلابات العسكرية أو بحكم الأمر الواقع، وهذا ما حصل تماماً في وصول ميشال عون، حيث كانت العملية برمّتها عبارة عن انقلاب فاضح وممنهج فرضه رئيساً بالقهر والقوّة والابتزاز، لا بمنطق الديموقراطية والانتخابات النزيهة والمجرّدة، وذلك بعد تعطيل 45 جلسة مخصّصة لانتخاب رئيس جديد، لأنّها لم تحسم مسبقاً مسألة وصول ميشال عون وحده دون سواه.
إقرأ أيضاً: فخامتك: أنت لست ربيع الزين..
الآن يريدنا ميشال عون أن نتذكّر مجدّداً أنّه الجنرال. ونحن لم ننسَ ولن ننسى. الفارق الوحيد أنّه بات الجنرال المهزوم الذي يحنّ في أرذل عمره إلى بستان جدّه. ولو قُدّر للعريف أدولف هتلر أن يتلفّظ بآخر أمنياته قبل هلاكه، لربّما تمنّى الأمر نفسه، بدل أن يصبح فوهرر ألمانيا التي أحرقها وأحرق معها العالم برمّته.