تُوّجت زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي للمملكة العربية السعودية بدعوةٍ من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، بخمس اتفاقياتٍ لتمتين التعاون بين الدولتين في مجالات الاستثمار والتبادل التجاري والمشروعات التنموية وفتح المزيد من المعابر وتسهيل تنقُّل السِلَع والأشخاص بين البلدين. وقد نوّه رئيس الوزراء العراقي بحرص المملكة على العراق واستقراره، الذي يدعمه التعاون الاقتصادي والسياسي والتشاور المستمر.
لقد مرّت العلاقات السعودية – العراقية بعد الغزو الأميركي عام 2003 بخمس مراحل متداخلة:
لا شكَّ أنّ الكاظمي هو الأقوى حكمةً وتوازناً بين رؤساء الوزارة العراقيين منذ الغزو الأميركي. لكنّ الذين يسميهم “المجرمين” ما يزالون يغيرون بشكل شبه يومي على قوات التحالف، التي يقول الكاظمي إنّ العراق ما يزال بحتاج إليها وإنْ ليس من أجل القتال بعد هزيمة داعش
– في المرحلة الأولى تشكلت حلقة “دول جوار العراق” التي كان هدفها التسريع في خروج الجيوش الأميركية والبريطانية وغيرها من البلاد، والإسهام في الحيلولة دون استشراء الاقتتال الداخلي.
– وفي المرحلة الثانية، وقد انفضّت لجنة دول الجوار شاركت المملكة إلى دولٍ عربيةٍ أُخرى في أن يستعيد العراق دوره وموقعه في الجامعة العربية.
– في المرحلة الثالثة انشغلت المملكة مع الكويت في إغاثة العراق الذي مزّقته النزاعات الداخلية.
– أما في المرحلة الرابعة فإنّ السعودية شاركت في التحالف الدولي لمقاتلة داعش في العراق.
– أما البلدان فهما الآن في المرحلة الخامسة، التي بدأت في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز وتصحُّ تسميتها مرحلة إعادة البناء، باستعادة العراق إلى الصف العربي، والاعتماد في ذلك على الانفتاح على كلّ المستويات. وهي السياسات التي سلكتها المملكة تجاه كل دول الاضطراب العربي من العراق إلى السودان وليبيا. وهي تترقّب وتستعدّ للإسهام في استعادة الاستقرار في كلٍ من لبنان وسورية.
تجاه العراق على وجه الخصوص، تعدّدت محاولات المملكة خلال السنوات الماضية لمساعدة العراقيين بكل سبيل مُتاح. فكلّ رؤساء الوزارة لعراق ما بعد صدّام، وبخاصةٍ في الأعوام العشرة الماضية، أتوا إلى الرياض بدعواتٍ من قيادة المملكة، التي أقدمت – إلى جانب الأردن والكويت ومصر – على فتح سفارتها في بغداد وأعادت السفير إليها، على الرغم من التهديدات والإصرار على القطيعة من جانب الأطراف المسلَّحة هناك. الكاظمي يشير إلى الفريق الرياضي السعودي الذي لعب في مباراة بالبصرة قبل سنوات، وقوبل من البصريين بالتصفيق والهتافات. وقد كان محتاجاً إلى ذلك لأنّ رئيس الوزراء العراقي السابق المالكي قال قبل أشهر، ردّاً على عروض وفدٍ اقتصادي سعودي بحث اتفاقياتٍ للاستثمار، إنّ “الاستثمار هو استعمار”. يظلّ هذا الأمر غير سهل على الكاظمي. فهناك أنباء عن محاولة اغتيال جرت ضدّ أحد مساعدي مدير الاستخبارات العراقية، ردّاً مباشراً على زيارته للمملكة واتفاقياته معها.
يعاني العراق اليوم أو لا يزال انتشار الميليشيات المسلحة الموالية لإيران في أنحائه تحت عنوان “الحشد الشعبي” أو بدون عنوان. ويعاني الخراب الذي نال مدنه وقراه وعمرانه وخضرته (وهو بلاد ما بين النهرين) من القتال الذي نشب للتحرير من داعش. ويعاني الهجرة والتهجير والفوضى التي لا تزال منتشرة في النواحي التي تحرّرت من الإرهاب، والفساد الفظيع الذي أعجز البلد الغنيّ بالموارد النفطية حتى عن دفع مرتبات الموظفين والعسكريين الرسميين وغير الرسميين. ويضاف إلى هذا كلّه العلاقة المتأرجحة بإقليم كردستان. ويقول الكاظمي في مقابلته مع صحيفة “الشرق الأوسط” إنّ العراق صديق الآن لكلّ الدول المحيطة، وهو وثيق العلاقة بالمسؤولين الأكراد. لكنّ التقارير تشير إلى أنّ كل المعابر مع دول الجوار لا تخضع للقوى النظامية العراقية، وأنّ الطائرات التركية لا تزال تُغير على جبال قنديل، وعلى منطقة سنجار. والتنظيمات المسلَّحة وتركيبات الفساد لا تزال تسيطر على الحدود ومعابرها مع سورية والأردن.
يتبين أنّ عملية “استعادة العراق” لدولته واستقلاله ونظامه ما تزال تمثل تحدياتٍ كبرى وتحتاج لثلاثة أمور: الأمن، وإعادة الإعمار، والتنمية. وهي القضايا التي تشغل دولة الجوار الكبرى للعراق: المملكة العربية السعودية. وهي تتقدّم من خلال سياساتها السلمية المستمرّة والمتنامية لتلبية احتياجات العراق لمواجهة هذه المشكلات
لماذا هذا التفصيل؟
لا شكَّ أنّ الكاظمي هو الأقوى حكمةً وتوازناً بين رؤساء الوزارة العراقيين منذ الغزو الأميركي. لكنّ الذين يسمّيهم “المجرمين” لا يزالون يغيرون يوميّاً على قوات التحالف، التي يقول الكاظمي إنّ العراق لا يزال يحتاج إليها وإنْ ليس من أجل القتال بعد هزيمة داعش. والمسلّحون الذين يحاولون ضرب الأميركيين (2500 عسكري) يقولون إنّهم سيتابعون الهجمات.
وفي كل هذه الوقائع يتبيّن أنّ عملية “استعادة العراق” لدولته واستقلاله ونظامه لا تزال تمثّل تحدّياتٍ كبرى وتحتاج إلى ثلاثة أمور: الأمن، وإعادة الإعمار، والتنمية. وهي القضايا التي تشغل دولة الجوار الكبرى للعراق: المملكة العربية السعودية. وهي تتقدّم من خلال سياساتها السلمية المستمرّة والمتنامية لتلبية احتياجات العراق لمواجهة هذه المشكلات.
وإذا كانت المشكلات شديدة الظهور، فلا شكّ أيضاً أنّ الكاظمي حقّق نجاحاتٍ ينبغي أن تُذكر. وأهمّ تلك النجاحات الظاهرة تمكُّنُه من الاستجابة لمبادرات المملكة، والتي عُرضت على سلفه من قبل وما استطاع الاستجابة لها. فإذا كان الكاظمي يشكّلُ فرقاً بارزاً في مسار الاستعادة، فإنّ الفرق الآخر بل والتمكين حقّقته ثورة الشباب في البلاد، التي كانت أهمّ أسباب توصّل الكاظمي إلى ما توصل إليه.. وإلى هذا الاشتراك الناجح على الرغم من وباء كورونا: الإقدام على إجراء انتخابات في أيلول/سبتمبر المقبل، وهي الانتخابات التي يراهن عليها كل العراقيين والعرب لاستعادة الزمام في الدولة والمجتمع.
همُّ السيادة الوطنية لا يشغل العراقيين فقط، بل ويشغل السوريين واللبنانيين واليمنيين والليبيين. وهذه الشعوب العربية جميعاً تعاني بسبب الميليشيات المصنوعة من القوى الإقليمية (وبخاصةٍ إيران) والتي تهدِّد استقرارها ووحدة أراضيها وسلطاتها، ونظام العيش فيها. والمملكة التي أطلقت مبادرةً كبرى لدعم استقرار العراق وازدهاره، أطلقت مبادرةً كبرى أيضاً في اليمن للإسهام في صنع السلام فيه. فمملكة الخير والبناء لا تبادر لدعم المرافق وخدمة الناس واستعادة نظام العيش وحسْب، بل وتتقدم بالمبادرات لصنع السلام الوطني والعربي الذي يجعل كل ذلك ممكناً.
إقرا أيضاً: السعودية “انتشلت” العراق… فهل “يتعلّم” لبنان
لا أعرف من هو الذي أطلق هذه العبارة: “الأمل الذي لا شفاء منه”. نعم، هو الأمل بالعراق العربي، الذي يحدو المملكة التي عملت وتعمل عليه بلا كللٍ ولا ملل في عهد الملك سلمان ويحفز ولي عهده. فاستقرار العراق وعافيته هما استقرار لدول الخليج العربي، بل ولكل عرب المشرق وإحياء لنظام المصلحة العربية. وإذا كان أمل العراقيين وأمل الخليجيين والعرب يتجددان بالعراق، فإنّ المرجوّ أن يمتدّ باتجاه سورية ولبنان اللذين يعانيان ما يعانيه العراق بسبب الميليشيات وصانعيها، والإرهاب والقائمين عليه.
بعد زيارة المملكة، مضى رئيس وزراء العراق إلى دولة الإمارات العربية المتّحدة في زيارة رسمية. وإذا أضفنا إلى ذلك، المثلّث الذي يحاول إقامته مع مصر والأردن، يتبيّن لنا أنّ سياسات الكاظمي هي سياساتٌ مقصودة، من أجل وضع العراق من جديد، في قلب العالم العربي.