لا احتلال إيرانيّاً للبنان بل “فناءٌ” فيها

مدة القراءة 5 د

لا “احتلال إيرانيّاً” للبنان. هذه المقولة غير دقيقة ويجب التخفّف منها لأنّ تداولها على سبيل المجاز والاستعارة غالباً ما يدفع إلى التقيّد بحرفية الكلام، ولأنّ هذه المقولة لم تُظهر جدواها في بلورة منظار برنامجيّ وطنيّ يستطيع، من بعد تهلهل 14 آذار ثمّ تضعضع 17 تشرين، طرق باب المسائل اللبنانيّة العويصة والمستفحلة وشبه المستعصية والإحاطة بها إحاطةً أوسع وأنجع.

ينتهي “الاحتلال” وتُطوى صفحته بانسحاب قواته. وهذه هي حال السورييّن الذين يمكنهم أن يحقّقوا ذلك بانسحاب جميع القوّات والميليشيات غير السورية من سوريا، ومنها التشكيلات اللبنانيّة من مقاتلي “حزب الله” وسواه.

لكن ماذا عن لبنان نفسه؟

في مطلع الثمانينات كان التدخّل الايرانيّ المباشر لتأسيس الحزب، وانطلق الحزب بعد ذلك بسرعة، بفضل الدعم الإيرانيّ المتواصل، وبالعدول عن الشعار المستحيل “الجمهوريّة الإسلاميّة في لبنان”، فكان نسيجه الحزبيّ لبنانياً بكلّ كوادره وأفراده، وامتدّت شعبيّته إلى شيعة لبنان في المهاجر الأفريقيّة والأميركيّة. فعن أيّ “احتلال إيرانيّ” للبنان نتحدّث في هذه الحالة؟ المشكلة تكمن في “الفناء اللبنانيّ” في إيران، وليس في “احتلال إيرانيّ” للبنان. 

إنّ “حزب الله” هو الجماعة غير الإيرانيّة الأكثر إخلاصاً لنظام ولاية الفقيه. ويرتبط عضويّاً بالحرس الثوريّ الإيرانيّ، لكنه ليس حزباً إيرانيّاً. ولا شيء يمنع، نظريّاً على الأقل، أن يتبوّأ السيّد حسن نصر الله منصباً رفيعاً في إيران نفسها، والذي يجيز له الدستور الايرانيّ عزلَ رئيس الجمهوريّة المنتخب بالاقتراع العام المباشر.

ينتهي “الاحتلال” وتُطوى صفحته بانسحاب قواته. وهذه هي حال السورييّن الذين يمكنهم أن يحقّقوا ذلك بانسحاب جميع القوّات والميليشيات غير السورية من سوريا، ومنها التشكيلات اللبنانيّة من مقاتلي “حزب الله” وسواه

وقد يسقط نظام ولاية الفقيه في إيران يوماً ما من دون أن يستتبع ذلك تلقائياً ومباشرةً حلّاً لمشكلة “حزب الله” ومشكلة الانقسام حول غلبته. فعن أي احتلال إيرانيّ للبنان نتحدّث؟

لم توجد هذه المقولة إلا لتبسيط المسائل، وجعلها فعليّاً أكثر استعصاءً.

لا يجدي تبسيط المسائل من خلال التخفيف، وهميّاً، من عمق الانقسام القائم بين اللبنانيّين اليوم الذي ظهر أنّه لا يمكن تجاوزه بإعطاء الأولويّة للتناقض الرئيسيّ مع “حزب الله” في حالة 14 آذار، ثم الإبحار من “الاجتماعيّ” إلى “السياسيّ” في حالة 17 تشرين. أوجد هذا التبسيط أخدوداً لا يمكن تجاوزه، بين من هم “مع” وبين من “هم” ضد “حزب الله”. وكل محاولة لتجاوز هذا الأخدود، على اعتبار أن اللبنانيّين غير منقسمين “لولا أنّ”، هي محاولة محكومة بالخيبة.

لا نعني بقولنا هذا أنّ هذا الانقسام لا يتحرّك، ولا أنّ مسرحه لا يتبدّل. لكنّه انقسامٌ فعليّ، وجوفيّ إلى حدّ كبير. معظمه لم يجد بعد فرصته ليظهر. معظمه استحقاقات مؤجّلة.

لا نعني بقولنا هذا أنّ هذا الانقسام لا يتحرّك، ولا أنّ مسرحه لا يتبدّل. لكنّه انقسامٌ فعليّ، وجوفيّ إلى حدّ كبير. معظمه لم يجد بعد فرصته ليظهر. معظمه استحقاقات مؤجّلة

لا احتلال إيرانيّاً للبنان، لكن يوجد أكثر من تحالف بين فئة من اللبنانيّين وبين إيران. “التبعيّة” أيضاً لا تفي الغرض. تنطبق التبعيّة على دول أوروبا الشرقيّة وموسكو عندما كانوا مستتبعين للاتحاد السوفياتيّ، وكانت الأحزاب الشيوعيّة الحاكمة فيها تئنّ من فرط هذه التبعيّة. أمّا حزب الله فلا يتبع إيران، وإنّما هو “فناء” بالمعنى الصوفيّ للكلمة. العاشق الذي يفني نفسه في المعشوق، أو الذي ينفي نفسه أيضاً إلى معشوقه. لا يلغي ذلك كون كلّ البلد واقعاً في وضعيّة تبعيّة لإيران، مثلما لا تلغي هذه التبعيّة تبعيّات أخرى له. البلد واقع في وضعيّة تبعيّة لإيران ولنقائض إيران الدوليّين والعرب في الوقت نفسه، مع فارق أنّ تبعيّة البلد لإيران ترتكز على فناء أكبر أحزابه فيها، في حين لا ترتكز تبعيّة البلد لنقائض إيران على ذلك، بل على اعتبارات أقلّ شعريّة بكثير. وهذا هو التفاوت الكبير. علاقة شعريّة بإيران وعلاقة نثريّة بباقي العالم. في هذا التفاوت ينهار لبنان كمشروع كيان وطنيّ.

إقرأ أيضاً: هل اقتربت الحرب المباشرة بين طهران وتل أبيب؟

إنّ الحزب مسلّح، وسلاحه هو القاعدة الماديّة الأساسيّة لمشروعه التغالبيّ، لكنّها قاعدة ماديّة تسكنها العقيدة والشعور بالانتماء إلى صحوة شيعيّة كبرى، وخوض الصراع مع اسرائيل وتقديم النموذج التطبيقيّ في هذا المضمار. هو حزب صاعد، أقلّه من الثمانينات حتّى حرب تمّوز 2006.

لا يمكن لحزب الله أن تكون له الغلبة بالعقيدة أو السلاح أو الصحوة الشيعيّة أو اعتبارات الصراع مع إسرائيل، لولا حلفه المزدوج مع كلٍّ من حركة أمل والتيار العونيّ. هو الغالب من خلال حليفيْه، لكنّ هذا التحالف مع هذا وذاك لا يستمرّ بالقوّة، بل بتفاهم قائم على مصالح متبادلة. لا يشطب ذلك اعتبار القوّة التي تحضر، بالأحرى، من خلال استفادة حليفيْه الأساسيّين، الشيعيّ الآخر والمسيحيّ، من قوّته، للاستناد إليها حيناً، وحيناً آخر للاستفادة من كونهما يستطيعان توفير صلة وصل، ترانزيت، بين هذه القوّة و”باقي العالم”.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…