تُفيد قناعة سائدة بين القوى السياسيّة بأنّ احتمال حصول خرق على المستوى الحكوميّ بات شبه مستحيل في المرحلة الراهنة. الحلول مؤجّلة ومتروكة للروزنامة الإقليميّة. الكل يتعامل مع الارتطام الكبير على أنّه حاصل لا محالة، وكلّ ما يمكن القيام به هو التخفيف من تداعياته. ومع ذلك، لا تبدي القوى السياسيّة، سواء تلك الموجودة في السلطة أو المعارضة، أيّ مجهود استثنائيّ على المستوى الاجتماعيّ من شأنه أن يساعد الناس على مواجهة ما هو أعظم من التدهور الحاصل، سواء ارتفاع أسعار الموادّ الاستهلاكيّة أو انقطاع بعضها، أو الجوع والفقر والعوز…
ومع ذلك شهدت الساحة الرسميّة سلسلة لقاءات دبلوماسيّة كادت تشي بوجود متغيّرات خارجيّة من شأنها الدفع باتجاه تعجيل مشاورات التأليف… أو باتجاه اعتذار رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، كما يرغب ويعمل رئيس الجمهوريّة ميشال عون ومعه رئيس “التيّار الوطنيّ الحرّ” جبران باسيل، اللذان يصرّان على التعامل مع الحريري على أنّه عبء عليهما، لا بدّ من “التخلّص” من تكليفه، طالما أنّ عباءته الإقليميّة، أي السعوديّة، مثقوبة، الأمر الذي قد يعرّضه لـ”الضرب من بيت أبيه”.
تُفيد قناعة سائدة بين القوى السياسيّة بأنّ احتمال حصول خرق على المستوى الحكوميّ بات شبه مستحيل في المرحلة الراهنة.
لكنّ المطّلعين عن كثب على مضمون تلك اللقاءات الدبلوماسيّة، ولا سيّما تلك التي حصلت في قصر بعبدا، والتي جمعت الرئيس عون بالسفير السعوديّ وليد البخاري، ثمّ السفيرة الأميركيّة دوروثي شيّا، وقبلها السفيرة الفرنسية آن غريو، وقد تلت السجال الإعلاميّ السياسيّ بين بعبدا وبيت الوسط… اللغة واحدة والنَفَس سلبيّ. لا بل أكثر من ذلك، تزداد حالة الاستغراب لدى الدبلوماسيّين المعتمدين في لبنان، جرّاء “تسطيح” المسؤولين اللبنانيّين للأزمة الحاصلة والتعامل معها بكثير من الأنانيّة والابتذال يصدمان المستمعين إليهم!
وفق هؤلاء، لم يقدّم رئيس الجمهوريّة عرضاً مقنعاً لأيٍّ من السفراء الذين التقاهم، ولم يفهم هؤلاء حقيقة المغزى أو الرسالة التي أراد رئيس الجمهوريّة إيصالها للمجتمع الدوليّ، إذ تركّز مضمون اجتماعاته مع الدبلوماسيّين على الصلاحيّات الممنوحة له وفق الدستور، وتحديداً تلك المتعلّقة بعمليّة تأليف الحكومة، وذلك من باب تبريره كلَّ خطواته تجاه سعد الحريري وشرحِه أسباب تعنّته ورفضه تقديم أيّ تنازل. كذلك فعل رئيس الحكومة المكلّف في شرح موقفه الدستوريّ لا أكثر… بينما تضغط العواصم المعنيّة بالملفّ اللبنانيّ باتجاه تأليف حكومة بمعزل عن الخلافات الداخليّة وحسابات القوى السياسيّة، لأنّ هذه الإدارات، وأبرزها الإدارة الفرنسيّة التي تبدي اهتماماً أكثر من غيرها بتطوّرات الوضع اللبنانيّ خشيةً من الانهيار الكبير، أخرجت نفسها من زواريب التصنيفات للوزراء والحكومة العتيدة، وكل ما تريده هو تأليف حكومة قادرة على فرض الإصلاحات لكي يتمكّن لبنان من لجم التدهور.
لم يقدّم رئيس الجمهوريّة عرضاً مقنعاً لأيٍّ من السفراء الذين التقاهم، ولم يفهم هؤلاء حقيقة المغزى أو الرسالة التي أراد رئيس الجمهوريّة إيصالها للمجتمع الدوليّ
أمّا غير ذلك فلا يبدو أنّ باريس مهتمّة بأيّ أمر آخر، ولا سيّما تلك التفاصيل التي يتقاتل عليها كلٌّ من رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة، لا بل تنظر إليها، وفق المطّلعين، بعين “الاشمئزاز” لأنّها تزيد من الأعباء والأكلاف التي سيتكبّدها لبنان جرّاء المماطلة وعرقلة قيام حكومة.
البعض يقول إنّ تجربة بعض وزراء الحكومة المستقيلة، الذين بدوا في “الهريبة كالغزال”، تزيد من القناعة بأنّ تحدّيات المرحلة المقبلة تستدعي وجود وزراء قادرين على مواجهة الرأي العامّ لأنّ قرارات حكومتهم ستكون صعبة جداً وغير شعبيّة أبداً. ولهذا، مثلاً، يُنقل عن بعض المسؤولين الفرنسيّين استغرابهم الحرب الدائرة بين بعبدا وبيت الوسط، خصوصاً أنّ باريس مقتنعة أن لا مفرّ من التعايش بين الرجلين، والتسوية بينهما ستحصل عاجلاً أم آجلاً، فلماذا تضييع الوقت؟
إقرأ أيضاً: دياب لا يتجاوب مع دعوة “السيّد”: لا تفعيل ولا “ترشيد” ولا انتخابات فرعية…
وفق هؤلاء الدبلوماسيّين، لا يمكن للخارج أن يفعل أكثر ممّا يفعله، وتقع المسؤوليّة على الحكّام اللبنانيّين الذين عليهم الترفّع عن خلافاتهم والدفع باتجاه محاصرة التدهور. حتّى الإدارة الأميركيّة لم تعُد تبدي الكثير من التركيز على شكل الحكومة أو مكوّناتها، وتفضّل الحكم على سلوكها وجدول أعمالها، لا أكثر.
في المحصّلة، لا يُحسد سعد الحريري على موقعه. ففي حال اندفع باتجاه التأليف، فهو سيواجه ظروفاً استثنائيّة قد لا تخرجه من محرقتها سليماً، سواء بسبب الشروط التي سيفرضها صندوق النقد الدوليّ أو بسبب القرارات التي سيضطرّ إلى اتخاذها وأقلّها رفع الدعم. وفي حال راوح مكانه بانتظار حلول معجزة قد تنقذه، فإنّ الارتطام الكبير لن يعفي أيَّ فريق سياسيّ من أضراره، ولو بنسب متفاوتة. والحريري ليس أفضل من غيره.