ما إن بلغت الأزمة حدوداً باتت تنذر بتطوّرات اجتماعيّة وأمنيّة دراماتيكيّة حتّى خرج حزب الله ليقول: “لست معنيّاً بالحلّ إلّا بما تمليه عليّ أولويّاتي الإقليميّة، وإلى حين تحقّقها، هيا بنا ندير الانهيار”، أي أنّ سقف طموح الحزب المُعلن الآن هو إدارة الانهيار، ولا سيّما ضمن بيئته، لا البحث عن حلّ سياسيّ يجنّب الدولة والمجتمع تفاقمه.
هذا السقف السياسيّ الذي وضعه الحزب لحركته السياسيّة تلقّفه التيّار الوطنيّ الحرّ سريعاً. وهو ما عكسته تغريدة النائب جبران باسيل السريعة تأييداً لخطاب السيّد حسن نصرالله الخميس. سرعة لا تعكس تلقّفاً فوريّاً للخطاب وحسب، بل تعكس أيضاً تنسيقاً مسبقاً بينه وبين الحزب بخصوص خطوط الخطاب العريضة.
وما هي إلّا بضعة أيّام حتّى ترجم العهد هذا السقف ليل الأحد – الاثنين عبر الرسالة المهينة واللادستوريّة التي وجّهها إلى رئيس الحكومة المكلّف بواسطة “درّاج” ومغلّف مكتوب عليه “رئيس الوزراء السابق” وورقة “يُستحسن تعبئتها” لتشكيل الحكومة.
سرعان ما تُرجم السقف، الذي رسمه خطاب الخميس، انقلاباً سياسيّاً دستوريّاً ضمن المؤسّسات، نفذّه العهد ضدّ رئيس الحكومة المكلّف. وهو انقلابٌ غير معزول عن المسار السياسيّ لكلا الحزب والتيّار، ولا سيّما منذ تسوية العام 2016، التي تركّزت أساساً على محاولة فرض سلوكيّات وأعراف مخالفة للدستور استعداداً لظرف مؤاتٍ لطرح تعديلات دستوريّة تمسّ جوهرَ النظام السياسيّ المرتكز على وثيقة الوفاق الوطنيّ. أي باختصار تمهيداً للانقضاض على اتفاق الطائف.
ما هي إلّا بضعة أيّام حتّى ترجم العهد هذا السقف ليل الأحد – الاثنين عبر الرسالة المهينة واللادستوريّة التي وجّهها إلى رئيس الحكومة المكلّف بواسطة “درّاج” ومغلّف مكتوب عليه “رئيس الوزراء السابق” وورقة “يُستحسن تعبئتها” لتشكيل الحكومة
وليس قليل الدلالة في هذا السياق حديث نصرالله الخميس عن هذه التعديلات بعد أن كان قد سارع في الصيف الماضي إلى تلقّف دعوة الرئيس الفرنسي لـ”عقد سياسي جديد”، قبل أن يسحب الفرنسيّون هذا التعبير من التداول بعدما أثار الكثير من اللغط.
لكن لا شيء يضمن للتيّار والحزب أن لا يرتدّ هذا الانقلاب عليهما، أو أقلّه على تحالفهما القائم منذ العام 2006، خصوصاً أنّ أيّاً منهما، ومهما كابر على الانهيار وصوّر نفسه بصورة القادر على درء تبعاته عنه أو إدارة هذه التبعات في بيئته، لا يستطيع التحكّم بوتيرة هذا الانهيار وبانعكاساته على المشهد الاجتماعيّ والسياسيّ، سواء الخاص ضمن بيئة كلّ منهما أو العام على مستوى البلد ككلّ.
وكلّما بلغ الانهيار سقفاً أعلى خلَّف احتقانات وشقاقات جديدة في هذا المشهد. وهذا ما أشار إليه بيان حركة أمل صباح الاثنين ردّاً على خطاب نصرالله الخميس، أي أنّ تفاقم الانهيار بدأ يطول حتّى التفاهم بين حركة “أمل” والحزب، الذي كان التفاهم الأقوى على الساحة السياسيّة، منذ اتفاق الطائف تقريباً.
هذا هو منطق الانهيار الذي بات يتحكّم باللعبة السياسيّة لأنّه أفلت من بين أيدي القوى السياسيّة وصار أقوى منها. فقد أصبح الانهيار قادراً على تصديع التحالفات القائمة ومفاقمة بعض الخصومات والتخفيف من بعضها الآخر. حتى الأكثر قوّةً في معادلات القوّة اللبنانية، أي الحزب، هو أضعف من الانهيار، وغير ضامن لقدرته أن يتحكّم بوتيراته أو توظيفها لمصلحته. وهو ما بدا أيضاً واضحاً في خطاب نصر الله الخميس، حين أشار إلى ازدياد انعكاسات الأزمة على البيئة الاجتماعيّة للحزب حيث بدأت تظهر تفاوتات معيشيّة لم تكن واضحة تماماً مع بداية الأزمة.
وسيدفع تفلّت الانهيار من أيّ ضوابط كلَّ قوّةٍ سياسيّة إلى البحث عن طرق خاصّة للنجاة بنفسها. وستحاول كلّ قوة توظيف تحالفاتها لتخلّص نفسها أوّلاً لا حلفاءها. وسينسحب هذا الأمر، على الأرجح، على تحالف التيّار والحزب.
صحيح أنّ ما حصل مساء الاثنين يشير إلى تقاطع كبير بين الطرفين، لكنّ السؤال المطروح: هل يزيد الانهيار هذا التقاطع أو يقلّصه؟ خصوصاً أنّ حسابات الحزب يُفترض أن تكون على مقياس أكبر لسببين:
الأوّل هو أنّ الحزب معنيٌّ بحسابات إقليميّة ودوليّة دقيقة هي جزء من مشروع إيران في المنطقة، بينما جبران باسيل أسير حساباته السلطويّة الضيّقة، ولا سيّما بعد فرض العقوبات الأميركيّة عليه.
والثاني هو أنّ الحزب معنيٌّ ببيئة اجتماعيّة ضخمة سبق لنصرالله الخميس أن أشار إلى حساسيّات الانهيار فيها، بينما باسيل لا يحمل أيّ عبء مماثل، وهو يقيم في اللقلوق يخطّط للنجاة بعيداً من أيّ ضغوط اجتماعيّة.
سيدفع تفلّت الانهيار من أيّ ضوابط كلَّ قوّةٍ سياسيّة إلى البحث عن طرق خاصّة للنجاة بنفسها. وستحاول كلّ قوة توظيف تحالفاتها لتخلّص نفسها أوّلاً لا حلفاءها. وسينسحب هذا الأمر، على الأرجح، على تحالف التيّار والحزب
هذا السؤال لا إجابات واضحة عنه بعد، لكنّ محاولة الإجابة عنه يُفترض أن تأخذ في الاعتبار أنّ تفاهم مار مخايل هو تفاهم انقلابيّ بامتياز هدفه على المدى البعيد إطاحةُ الدستور الحاليّ بتعديلاته المنبثقة من اتفاق الطائف. ومجريات مساء الاثنين تحاكي عن قرب الديناميّة الانقلابيّة لهذا التفاهم.
لكن لا يمكن للحزب في الظرف الداخليّ والإقليميّ الحاليّ أن يتحرّك في قالب سياسيّ جامد يمليه عليه تحالفه مع التيّار إلّا إذا كان الأخير مستعدّاً للانسجام التامّ مع أولويّات الحزب. وحتّى لو سلّمنا جدلاً بإمكان هذا الانسجام فإنّ طَرْق نصرالله لباب التعديلات الدستوريّة وملاقاته من قبل العهد يطرحان سؤالاً أساسيّاً عن إمكان توافق الحزب والتيّار على تلك التعديلات، وخصوصاً إذا تطرّقت للصيغة الطائفيّة الرئيسيّة للنظام، أي “المناصفة”، ولا سيّما أنّ باسيل أعلن رفضه لصيغة المثالثة. وبات أفق تحالف الحزب وأمل مرهوناً بأفق تحالف الحزب والتيّار. فكلّما اقترب الحزب من التيّار ابتعد عن أمل، والعكس صحيح. وهذا أمرٌ يُفترض أن لا يكون خارج حسابات الحزب. أي أنّ المسار الانقلابيّ للتيّار والحزب منذ 2006 لا يعني أنّه غير مرشّح لأن يشهد انقلاباً داخله.
إقرأ أيضاً: “الانقلاب على الطائف”: عن الشهوات والأطماع والأوهام… والغباء!
لكنّ السؤال الرئيسيّ الذي تتيح الإجابة عنه إمكاناً أكبر لتوقّع حركة الحزب: هل استوعب الحزب منطق الانهيار؟ أي هل استوعب أنّ الانهيار صار أقوى من الجميع بمن فيهم هو؟
فإذا كان يراهن على أنّ تشدّده ثمّ تفاقم الانهيار سيثيران شفقة الأميركيّين على لبنان وسيدفعهم إلى تغيير سياساتهم تجاهه بما يعكس فوزاً للحزب وإيران فيه، فهذا دليل على لغط يشوب قراءته لخصائص الظرف الحاليّ.
مع العلم أنّ التلويح المتزايد بعقوبات أوروبيّة على معطّلي تأليف الحكومة يقلب المعادلة. فربّما لن يدفع التعطيل الأوروبيّين، وتحديداً الفرنسيّين، إلى التساهل مع شروط الحزب والتيّار، بل سيدفعهم إلى فرض عقوبات عليهما.