منذ بداية الشهر اشتعلت السوق بحركة غير طبيعية على مستوى تجارة الشيكات المصرفيّة. بعض المضاربين تهافتوا على شراء شيكات الدولار الأميركي، تحت تأثير الشائعات التي تحدثت عن قرب رفع سعر دولار المنصة، المعتمد لسحب الودائع الدولاريّة بالليرة اللبنانيّة. أما بعض أصحاب الودائع، فسارعوا إلى بيع الشيكات المصرفيّة خوفًا من تحوّل ما ينهي سياسة سحب الودائع المدولَرة بالليرة اللبنانيّة في نهاية الشهر، أو يخفّض سقوف السحب بشكل كبير، وهو ما سيؤثّر على إمكان تسييل الدولارات المصرفيّة بالوتيرة ذاتها. أما السبب الأساسي خلف كل تلك الترجيحات، فهو قرب انتهاء صلاحيّة التعميم 151 في نهاية الشهر الحالي، وهو التعميم الذي ينظّم عمليّة سحب الودائع المدولرة بالليرة اللبنانيّة في المصارف، وفقًا لسعر المنصّة، مع عدم وجود أيّ مؤشرات تدلّ على توجهات المصرف المركزي المقبلة.
يوم أعلن مصرف لبنان عن المنصّة وسعر الصرف الخاص بها، ومن ثم آليّة سحب الودائع وفقًا للتعميم 151 كان الهدف مزدوجًا. بدايةً فإنّ إطلاق المنصّة وسعر الصرف المعتمد لها، كان هدفه توفير سعر صرف انتقالي، يمكن أن يمثّل لاحقًا سعر صرف موحّد خاضع لآليات العرض والطلب، بعد تعويم الليرة اللبنانيّة بالتنسيق مع صندوق النقد، وبالاستفادة من رزمة الدعم التي يمكن أن يقدّمها. أما الهدف الثاني، فكان إيجاد آليّة موقتة عبر التعميم 151 لتوفير السحوبات النقديّة بالعملة المحليّة، من الحسابات المقوّمة بالعملات الأجنبيّة، وفقًا لسعر المنصّة، لتفادي المزيد من الاستنزاف الناتج عن توفير السحوبات بالدولار النقدي.
عمليًّا، بدت الخطة للوهلة الأولى عادلة للمودِعين، كون سعر صرف السحوبات النقديّة بالليرة ليس سوى سعر المنصّة الذي سيُعتمد كسعر موحّد وعائم للدولار على المدى المتوسّط. كما بدت الخطة منطقيّة من حيث التأسيس لانتظام سوق النقد، خصوصًا أنّ سعر المنصّة كان سيُعتمد – بعد التعويم – كسعر لاستيراد جميع السلع بما فيها السلع الأساسيّة، مع الاستفادة من رزم الدعم المُتوقّعة من صندوق النقد الدولي، لتأمين السيولة ودفع سعر الصرف للمراوحة ضمن هوامش معقولة وقابلة للاستيعاب. علمًا أنّ الرهان كان يتركّز على دفع سعر صرف السوق السوداء للانخفاض، والتوازي مع سعر الصرف المعوّم داخل النظام المالي الرسمي، بعد الشروع بتطبيق هذه الخطة، تبعًا لخطة صندوق النقد المعتمَدة عادةً لتوحيد أسعار الصرف.
إطلاق المنصّة وسعر الصرف المعتمد لها، كان هدفه توفير سعر صرف انتقالي، يمكن أن يمثّل لاحقًا سعر صرف موحّد خاضع لآليات العرض والطلب
لكنّ حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر. فمفاوضات الحكومة سرعان ما تعثّرت مع صندوق النقد بعد الكثير من التباينات في صفوف الوفد اللبناني المفاوض حول المقاربات التي يجب اعتمادها لقياس ومعالجة الخسائر المتراكمة داخل النظام المالي، وكان خلاف الحكومة مع المجلس النيابي حول هذه المقاربات، القشّة التي قصمت ظهر البعير. ومع سقوط المفاوضات مع صندوق النقد، سقط برنامج الصندوق بأسره، ومعه رزم الدعم التي كان يفترض أن تمثّل حجر أساس على طريق توحيد أسعار الصرف، وإعادة الانتظام إلى سوق القطع. كما غابت عن الصورة تمامًا أيّ مقاربة حكوميّة للتعامل مع خسائر النظام المالي، تمهيدًا لإعادة الانتظام إلى عمل المصارف وعلاقتها مع المودعين.
منذ ذلك الوقت، توسّع الفارق بين سعرَيْ صرف المنصّة والسوق السوداء، ومعه توسّعت خسارة المودعين من كل عمليّة سحب نقدي تجري وفقًا سعر صرف المنصّة وآليّة التعميم 151. فباتت خسارة المودع اليوم وفقًا للفارق بين السعرين اليوم تصل إلى ثلثَيْ قيمة وديعته. وقد يكون هذا الفارق الشاسع بين السعرين، هو ما دفع المضاربين لتوقّع تصحيحٍ ما، في سعر المنصّة، لتخفيض الخسارة التي تصيب المودع من جرّاء هذا الفارق. لكن لدى مصرف لبنان في المقابل اعتباراته الأخرى. فعدم توحيد أسعار الصرف ضمن النظام المالي الرسمي، حوّل عملية سحب الودائع وفقًا للتعميم 151 إلى عملية ضخّ مستمرّة للسيولة بالعملة المحليّة في السوق، وهو ما مثّل أحد أبرز أسباب الضغط على سعر صرف الليرة. وعمليّة رفع سعر المنصّة، لن تعني اليوم سوى زيادة السيولة بالليرة التي يجري ضخّها بالسوق وفقًا لآليات التعميم.
مع سقوط المفاوضات مع صندوق النقد، سقط برنامج الصندوق بأسره، ومعه رزم الدعم التي كان يفترض أن تمثّل حجر أساس على طريق توحيد أسعار الصرف
حتّى اللحظة، يشير بعض المتابعين إلى أنّ المصارف لا تملك المصلحة برفع سعر صرف المنصّة، وهو ما يجعلها اليوم تدفع بعكس هذا الاتجاه. فرفع سعر المنصّة لن يعني سوى زيادة وتيرة عمليات السحب وفقًا لآليات التعميم 151، وهو ما سيعني المزيد من الضغط على سيولتها والمزيد من الخسائر الناتجة عن تسييل شهادات الإيداع الموظفة لدى مصرف لبنان. مع العلم أنّ المصرف المركزي وضع سقفًا لكمية السيولة التي يمكن أن تستخدمها المصارف من حساباتها لدى مصرف لبنان، فيما تحتاج إلى تسييل أيّ مبلغ إضافي من شهادات الإيداع التي تستحق في المستقبل، مع ما يعنيه هذا الأمر من خسارة لجزء من فوائد هذه التوظيفات.
إقرأ أيضاً: مصرف لبنان يعيد اختراع المنصّة: 10.000 بدلاً من 3900
كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس نسيب غبريل، اعتبر في حديث مع “أساس”، أنّ المنطق يرجّح اتخاذ المصرف المركزي قرار تمديد العمل بالتعميم 151، كما فعل سابقًا، لعدم وجود البديل، لكنّ المصرف المركزي لم يعطِ حتّى هذه اللحظة أيّ إشارة في هذا الاتجاه. أما بشأن التغيير في سعر صرف المنصّة، فيضعه غبريل في سياق الترجيحات التي يقوم بها مضاربون في سوق الشيكات. إذ إنّ المصرف المركزي لا يعطي في العادة إشارات كهذه قبل اتخاذ قرارات من هذا النوع، كون هذه الإشارات لا تصبّ إلّا في سياق أعمال المضاربة في سوق الشيكات. أما عمليّة توحيد أسعار الصرف، وإعادة الانتظام إلى سوق القطع، فمستبعدة قبل العودة إلى طاولة المفاوضات مع صندوق النقد، ومعها العودة إلى الإصلاحات المطلوبة للخروج من الوضع الراهن.
في الخلاصة، وبعكس بعض التكهنات، من المرتقب أن يشهد اللبنانيون خلال الأيام المقبلة قرارًا بتمديد العمل بالتعميم 151 من دون أيّ تغيير جوهريّ في تفاصيله، لكنّ ذلك لن يعني اليوم سوى تمديد العمل بخطة غير مكتملة المعالم، نتيجتها الطبيعيّة خسارة ضخمة في قيمة الدولارات المصرفيّة عند سحبها بالليرة، والمزيد من تضخّم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة. أما مسألة سعر صرف المنصّة، فلن تكون خاضعة حكمًا لتنبؤات المضاربين في السوق السوداء، خصوصًا أنّ المعنيين بهذا النوع من القرارات، يعلمون أنّ تسريب معلومات كهذه، لن تنفع إلّا في إشعال سوق المضاربات على الدولار المصرفي.