بعدما “انضبّ” الشارع بقرار من القيادة العسكرية، توجّهت الأنظار إلى مجلس النواب. هنا أيضًا يكمن جزء كبير من الأزمة الذي يضاف إلى أزمة الشارع والحكومة، وتفلّت الدولار وعقم حكومة تصريف الأعمال، وغياب القرار المالي الموحّد لمواجهة مرحلة الانهيار…
فالقانون الأكثر إلحاحًا المطلوب من مجلس النواب هو “الكابيتال كونترول”، ولم يُدرج على جدول أعمال الجلسة. لا “كابيتال كونترول” ولا أيّ قانون إصلاحي آخر ينادي به المجتمع الدولي سبيلًا لمنح الحكومة اللبنانية المليارات، لبدء الخروج من النفق. وسلفة الخزينة لكهرباء لبنان بقيمة 1500 مليار لا تزال محور كباشٍ بين جيش الرافضين لها على رأسهم نبيه بري، والمدافعين عنها يتقدّمهم وزير الطاقة والنائب جبران باسيل.
هي ثلاثة بنود فقط على جدول أعمال جلسة يوم الجمعة، وعنوانها قرض البنك الدولي بقيمة 246 مليون دولار لتنفيذ المشروع الطارىء لدعم شبكة الأمان الاجتماعي، للاستجابة لجائحة كوفيد 19 والأزمة الاقتصادية في لبنان.
وقبل أن يُعرف مصير قرض البنك الدولي بصيغته النهائية، ونتيجة المشاورات السياسية في شأن سلفة الـ1500 مليار، التي تطلبها مؤسسة كهرباء لبنان، غرّد نائب حركة أمل علي حسن خليل أمس معلنًا عن تقدّمه باقتراح قانون معجّل مكرّر، بإعطاء دفعة مالية بقيمة مليون ليرة شهريًّا لكل ضباط وعناصر القوى العسكرية والأمنية لمدّة ستة أشهر، على أن تُحسم هذه الدفعة من قيمة أيّ زيادة تعدّل سلسلة الرتب والرواتب خلال سريان هذا القانون، تاركًا للحكومة تحديد كيفية تغطية هذه الاعتمادات.
القانون الأكثر إلحاحًا المطلوب من مجلس النواب هو “الكابيتال كونترول”، ولم يُدرج على جدول أعمال الجلسة. لا “كابيتال كونترول” ولا أيّ قانون إصلاحي
ومنذ لحظة الإعلان عن “سلفة العسكر”، انقسمت الآراء حولها. فوزير المال غازي وزني ينعى خزينته الفارغة، وقيمة “الزودة” بحدّ ذاتها لا تقدّم ولا تؤخّر. فهي تساوي أقلّ من مئة دولار، وقد تقلّ عن ذلك بكثير إذا أكمل الدولار جولة تحليقه، في ظل انعدام المؤشرات عن قرب الانفراج السياسي.
حتى هذا الإعلان لم يلقَ الصدى المتوقع ضمن المؤسسات الأمنية والعسكرية، لأنّ المطلوب أكثر بكثير: “إيجاد حلّ للأزمة المالية والسياسية الخانقة، وإلّا المليون قد لا تكفي لشراء عبوة حليب وتنكة زيت، خصوصًا إذا تمّ رفع الدعم”. أما الصدمة الأكبر فأتت من جانب موظفي القطاع العام، والكثير منهم لن يكونوا من ضمن فئة المشمولين بقرض البنك الدولي للأسر الأكثر فقرًا. في ظل واقع اجتماعي ومالي مأسويّ يكرّس وجود نسبة أقل من 10% من اللبنانيين، الذين لم يتأثروا بالانهيار المالي فيما البقية تنزف بصمت.
مع ذلك طغى المعطى السياسي على خطوة نائب حركة أمل على بعد أيام من صرخة أطلقها قائد الجيش في شأن التخفيض المستمرّ في موازنة الجيش وفقدان رواتب العسكر قيمتها، بالتزامن مع انزعاج عام من القيادات السياسية الأساسية من خطاب السقف العالي لقائد الجيش الذي طال جميع رموز السلطة.
وقد بدا التزامن لافتاً بين قرار تحديد جلسة لمجلس النواب وفتح الجيش جميع الطرقات منذ فجر يوم أمس واقتراح علي حسن خليل، بإيعاز مباشر من الرئيس نبيه بري، “زَودة العسكر” التي يلمّح مطلعون أنها أتت في إطار المزايدة على قائد الجيش فقط.
المطلوب أكثر بكثير: “إيجاد حلّ للأزمة المالية والسياسية الخانقة، وإلّا المليون قد لا تكفي لشراء عبوة حليب وتنكة زيت، خصوصًا إذا تمّ رفع الدعم”
وتتوقع أوساط مطّلعة “عدم إقرار القانون أو إحالته إلى اللجان لدرسه، خصوصًا أنه قد يستدعي طبع مصرف لبنان المزيد من العملة الوطنية، ما سيؤدي إلى مزيد من التضخّم وتراجع القدرة الشرائية، مع الارتفاع المتزايد في أسعار السلع نتيحة ارتفاع سعر صرف الدولار”.
وحتّى الآن لم يُدرج على جدول الأعمال أيّ اقتراح قانون يحمل صفة العجلة، بما في ذلك اقتراح خليل واقتراح سلفة الكهرباء، وفق المبلغ المرصود في موازنة 2021، والمقدّم من نواب التيار الوطني الحرّ: زياد أسود وحكمت ديب وسيزار أبي خليل.
يطالب التيار العوني بـ”السلفة” “لتسديد عجز شراء المحروقات، وتسديد فوائد وأقساط القروض لصالح مؤسسة كهرباء لبنان”، ويحذّر تكتل لبنان القوي كما وزير الطاقة ريمون غجر في حال عدم إقرارها، بغرق اللبنانيين في العتمة الكاملة مع حلول نهاية آذار الجاري بسبب نفاد الفيول.
لكنّ الأسباب الموجبة التي تضمّنها الاقتراح، لم تلقَ صدًى في عين التينة، مركز القرار في رفضها أو إقرارها. حتّى برّي لا يبدو معنيًّا بالنزاع القائم بين وزارة الطاقة ومصرف لبنان لتأمين حاجات قطاع الكهرباء من الدولار. وحين يحضر الحديث عن وزارة الطاقة في مجالس القريبين من برّي، يكون الطبق الأوّل هو “ضرورة بدء التدقيق المالي والجنائي من وزارة الطاقة حيث الهدر الأكبر، والذي يوازي نصف الدين العام”.
ومع تأكيد العديد من النواب أنّ برّي يستخدم السلفة في إطار الضغط السياسي في ملف الحكومة، والكباش مع النائب جبران باسيل، فإنّ إدارة الظهر بالكامل لمطلب تغطية نفقات الفيول لن يكون ممكنًا لأنّ العتمة “بالمرصاد”.
وتجزم مصادر نيابية: “ستخفّص القيمة حتمًا، لأنّ إقرار هذا المبلغ دفعةً واحدة، وكما كان يجري في الأعوام الماضية هو بمثابة انتحار، أو قد يُحال اقتراح القانون إلى اللجان لدرسه، وعندها يحضر الوزراء المعنيون ومؤسسة كهرباء لبنان ومصرف لبنان الذي يجدر سؤاله إذا كان قادرًا على تأمين كلفتها”.
تضيف المصادر: “قيمة سلفة الـ 1500 مليار، توازي اليوم في السوق السوداء 150 مليون دولار (وليس مليار دولار على أساس سعر الصرف 1500)، وسيكون مصرف لبنان المعني بتأمين الفارق الذي سيتجاوز المليار دولار، فيما هو غير قادر أصلًا على تجديد عقود الصيانة للشركات المشغّلة”، مؤكدة أنّ “عصر السُلف من دون خطة قد ولّى، خصوصًا أنّ تأمينها سيكون على حساب المودعين”.
مع تأكيد العديد من النواب أنّ برّي يستخدم السلفة في إطار الضغط السياسي في ملف الحكومة، والكباش مع النائب جبران باسيل، فإنّ إدارة الظهر بالكامل لمطلب تغطية نفقات الفيول لن يكون ممكنًا لأنّ العتمة “بالمرصاد”
في المقابل ترى أوساط التيار العوني أنّ “عدم إقرار السلفة ستكون له تداعيات كارثيّة لا تقف عند حدود انخفاض التغذية إلى مستوًى قياسي، بل تعطيل مناقصة الفيول التي لا اعتماد لها بعد”.
لكنّ المعركة الأكثر وضوحًا على خط بعبدا – عين التينة، هي رزمة الاقتراحات “الإصلاحية” الني طرحها النائب باسيل للمقايضة مع الحكومة، ولم تلقَ جوابًا من الكتل السياسية كافة.
وقد كرّر باسيل مطلبه يوم الثلاثاء من خلال بيان تكتل لبنان القوي، الذي “نبّه إلى خطورة ما يجري التحضير له، وهو لن يسمح بأيّ شكل من الأشكال بوقف الإصلاحات وهي بمعظمها مجموعة اقتراحات قوانين لا تزال مجمّدة في مجلس النواب”.
إقرأ أيضاً: طريق بعبدا – اليرزة سالكة… بحذر
وسبق لباسيل أن طرح ما أسماه “المقايضة العادلة”: الإصلاحات مقابل الحكومة والثقة، على أن يكون “الدفع سلف” عبر إقرار قوانين “الكابيتال كونترول” واستعادة الأموال المنهوبة، واستعادة الأموال المحوّلة إلى الخارج، وكشف الحسابات والأملاك للقائمين بالخدمة العامة.
ويؤكّد نائب في التيار الوطني الحر أنّ “جميع القوانين موجودة في مجلس النواب وبعضها أُشبع درسًا، ويمكن إقرارها بجلسة واحدة بوجود القرار السياسي”.
لكنّ قريبين من دائرة بري يطرحون معادلة مضادة: “من يريد الإصلاح ليبدأ بنفسه. فلماذا لم يطبّق قانون إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وقانون إصلاح الكهرباء الذي يطالب به الفرنسيون وصندوق النقد الدولي”، مؤكدين أنّ “كل هذه القوانين “ما إلها عازة” في ظل قدرة المدعي العام التمييزي (بعد الاستعانة بشركة) وبالاستعانة بهيئة التحقيق الخاصة، يستطيع فتح الحسابات كافة. كذلك هناك قانون 44/2015 حول مكافحة تبييض الأموال”.