الدولار في لحظة الحقيقة: إليكم ثمن الحفاظ على رأس العهد

مدة القراءة 5 د

الكلام الذي قاله رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون أمام ما أسماه “الاجتماع الاقتصادي المالي الأمني القضائي” (كما لو أنّه كيم جونغ أون مجتمعاً بمعاونِيه!)، يشير بصراحة إلى أنّ ارتفاع الدولار “غير مبرّر”، ويوحي بأنّ وراءه “شائعات هدفها ضرب العملة الوطنية وزعزعة الاستقرار”.

بغضّ النظر عن ملابسات الحركة السياسية القائمة في البلاد هذه الأيام، كان يجدر باجتماع فيه جانب مالي اقتصادي أن يطرح السؤال المعاكس: أساسًا، كيف صمد الدولار دون العشرة آلاف ليرة منذ الصيف حتى الأسبوع الماضي؟

رياض سلامة ضخ 5.9 مليار دولار بين حزيران وأيلول الماضيين فهدأ الدولار لبضعة أشهر

كان استقرار سعر الصرف منذ حزيران الماضي في هامش بين ستة آلاف وثمانية آلاف ليرة خارج المعقول قياسًا بأوضاع بلدٍ نهشته جائحة كورونا، ودمّر انفجار المرفأ نصف عاصمته بلا أفقٍ حتى لصدور تقرير يحرّر التعويضات من شركات التأمين وإعادة التأمين.

بلدٌ بلا حكومة منذ سبعة أشهر، وبلا أفقٍ للحديث، مجرد الحديث، مع الدائنين من حاملي اليوروبوندز الذين توقفت الدولة عن السداد لهم. بلدٌ هزّه أكبر زلزال مالي ولم يقرّ قانون “الكابيتال كونترول” لوقف نزيف ما تبقى من الرساميل. بلدٌ منقطع التواصل مع صندوق النقد الدولي الذي لا ملجأ سواه في أيّ خطة للإنقاذ. بلدٌ لم يعد يربطه بالشريان العربي الذي هو مصدر المساعدات وفرص العمل والاستثمارات والسياحة، سوى الصواريخ البالستية والمسيّرات التي يرسلها “حزب الله” إلى السعودية، وأبواق الهجوم على قادة دول الخليج وحكوماتها من شتّى القنوات التلفزيونية التي تبثّ من الضاحية.

عندما شكّل حسان دياب حكومته في 21 كانون الثاني 2020 كان الدولار قريبًا من 2250 ليرة. بعد ذلك ارتفع إلى ذروة 9700 ليرة مطلع تموز. أي أّنه ارتفع بنحو 330% في وقت كانت حكومة تحظى بدعم أكثرية نيابية، تضع خطتها وتفاوض صندوق النقد الدولي. ما الذي يفسّر هبوط الدولار بعد ذلك واستقراره بين 6500 و8500 ليرة لبضعة أشهر، على الرغم من الموجة الثانية لكورونا وانفجار المرفأ واستقالة الحكومة؟

لم يعد لدى سلامة 11 مليار دولار أخرى كتلك التي ضخّها في 2020 إلا بمد اليد إلى التوظيفات الإلزامية

لا تفسير علميًّا لذلك سوى القرار غير المفهوم الذي اتخذه حاكم مصرف لبنان بضخ 5.9 مليار دولار من الاحتياطات بالعملة الأجنبية في البنوك خلال ثلاثة أشهر، بين تموز وأيلول الماضيين. وهذا الرقم يفوق ثلاثة أضعاف حاجات الدعم والاستيراد خلال هذه الفترة. وهكذا انخفض حساب العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان بـ10.9 مليار دولار بين بداية 2020 ونهايتها، ليصل في ختام السنة إلى 18.6 مليار دولار، وهذا انخفاض لا يمكن تفسيره بتكلفة الدعم.

هذا الضخّ الهائل للدولارات في الوقت الحرج يعود في الغالب إلى سببين: أوّلها، السماح لأصحاب الودائع الدولارية بالسحب بالليرة بسعر 3900 ليرة للدولار. فكل مبلغ يسحبه العميل يحصل عليه البنك من مصرف لبنان بالتمام والكمام مقابل دولارات يسددها البنك نقدًا أو تُحسم من حسابه، وبالسعر نفسه الذي سحب العميل وفقه. وثاني الأسباب أنّ مصرف لبنان سدد استحقاقات ودائع للبنوك لتعزيز سيولتها الخارجية، للحدّ من انكشافات حساباتها لدى البنوك المراسلة، ولمساعدتها في تنفيذ التعميم رقم 154.

العونيون يتهمون سلامة بالتوقف عن ضخّ الدولارات لتفجير الشارع بوجه العهد

أيًّا تكن دوافع سلامة لهذا التصرف الخطير بالدولارات المتبقية، فإنّه أراح سوق القطع لبضعة أشهر، وأتاح لمن يسحبون شيئًا من ودائعهم الدولارية في البنوك بسعر المنصّة، استبدالها بدولارات من سوق الصرافة. وربما يكون ذلك قد ساعد في هدأة الشارع في الأشهر الماضية.

الآن، مع انخفاض منسوب الدولارات لدى مصرف لبنان دون السبعة عشر مليار دولار، أي إلى حدّ المسّ بالتوظيفات الإلزامية التي تجمّدها البنوك لديه بما يعادل 15% مما لديها من دوائع بالدولار، تنتهي اللعبة. لم يعد لدى رياض سلامة 11 مليار دولار أخرى كتلك التي ضخّها في 2020. بات أمام خيار من اثنين:

– إما التوقف عن توفير الدولارات، فيتوقف الدعم وتنهار الليرة.

– وإما مدّ اليد إلى التوظيفات الإلزامية.

الخيار الأوّل له ثمن سياسي هو الاصطدام بالعهد، لأنّ الجماعة العونية ستفسّر الأمر بأنه تعمّد لتفجير الشارع في وجهها، خصوصًا أنّ المسؤولية تتجه مباشرة إلى الرئاسة في ظل عدم وجود حكومة فاعلة. أما الخيار الثاني فخطورته أكبر، لأنه سيقود إلى الانهيار الشامل بعد وقت وجيز، وسيقضي على آخر أمل بإعادة هيكلة البنوك وإعادة شيء من أموال المودعين مستقبلًا.

إقرأ أيضاً: اللبناني هرب من الليرة: الـ10 آلاف سعر جِدّي لن يتراجع بالاعتقالات

في تموز الماضي أبلغ سلامة المسؤولين بأنّ أموال الدعم توشك على النفاد، فكان ردّ رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب بأنّه يعارض رفع الدعم، وتملّصت القوى السياسية من اتخاذ أيّ خطوة لخفض فاتورته. ومرّت الأيام وما كأن أحد يشعر بالمشكلة.

اليوم، انتهى وقت الإنذارات. نفدت الدولارات في لحظة حرجة سياسيًّا، وما من وقت للإنذارات: ليس الخيار بين رأس سلامة ورأس العهد، بل بين الإفلاس الكامل للبلد أو رأس العهد.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…