ثبات الرئيس سعد الحريري على موقفه من عملية تشكيل الحكومة، وإصراره على حكومة 18 وزيرًا، ولا ثلث معطّلًا فيها، يؤشر إلى وضوح لا لبس فيه. وضوح لا يظهر أبدًا في الخطّ السياسي الأعم لدى تيار المستقبل، الذي تبرز داخله توجهات متعددة، بعضها ذو سقف مرتفع، وبعضها الآخر متوسط، فيما البعض الثالث منخفض جدًّا ويراعي حزب الله إلى أقصى الحدود. مواقف متعددة ومتناقضة، ليس من شأنها خدمة الموقف السياسي، فتبقى مصابة بضعف… وسط استمرار حالة الضياع السياسي حول تشكيل الحكومة والأسباب التي تعرقل العملية.
وجدان تيار المستقبل، بيئته وجمهوره، قلبًا وقالبًا مع مواقف البطريرك الراعي. المقربون من الرئيس سعد الحريري والذين يدورون في فلكه، مقتنعون منذ مدة طويلة بأنّ حزب الله هو الذي يعرقل عملية التشكيل، لكنّ الحريري كان يرفض وضع الأزمة الحكومية في هذه الخانة، مفضّلًا تحميل المسؤولية إلى رئيس الجمهورية والنائب جبران باسيل. أطراف فاعلة أخرى في الكتلة، لا تريد السجال مع الحزب، وتحرص على حسن العلاقة معه. بينما لا قرار سياسيًّا واضحًا في التماهي مع طرح البطريرك حول الحياد والمؤتمر الدولي.
كانت جولة كتلة المستقبل على المرجعيات الروحية والدينية، تعني سياسيًّا هروبًا مباشرًا من مبادرة الراعي، والالتفاف على عدم القدرة على مقاطعة بكركي. فكانت حيلة “الجولة” لوضع زيارة بكركي في سياق زيارات روتينيّة ودوريّة للمرجعيات الدينية. وبيانات كتلة المستقبل تؤشر إلى أنّ الغاية من الجولة هي شرح جهود الرئيس المكلف في سبيل تشكيل الحكومة، والبحث عن تحسين علاقات لبنان الخارجية.
وجدان تيار المستقبل، بيئته وجمهوره، قلبًا وقالبًا مع مواقف البطريرك الراعي. المقربون من الرئيس سعد الحريري والذين يدورون في فلكه، مقتنعون منذ مدة طويلة بأنّ حزب الله هو الذي يعرقل عملية التشكيل
أفقدت كتلة المستقبل المعنى الفعلي والأساسي لمبادرة البطريرك في جولتها الشاملة. البيان الذي خرجت به الكتلة بعد لقاء الراعي، بعيدٌ سنواتٍ ضوئية عن طروحات البطريرك، الذي طالب بمؤتمر دولي وتعزيز الحياد، لحماية الكيان اللبناني، والدستور واتفاق الطائف.
لم يذكر وفد الكتلة في بيانه كلمة الطائف أبدًا، ولا الموقف من مبدأ الشراكة والمناصفة وفق الدستور والطائف، وهي التي لطالما اتّهمت رئيس الجمهورية وحزب الله بالانقلاب على الطائف.
غياب الطائف عن البيان طيّر جوهر كلمة الحريري في 14 شباط حول المناصفة وحقوق المسيحيين، والحرص عليها. وبدا أنّه تراجع خطوة إلى الوراء على وقع الحملات التي شُنّها عليه قبل التيار الوطني الحرّ، فيما كانت بكركي، بطرحها وموقفها الواضح، الحصن الأساسي الذي لا بد من الوقوف خلفه في هذه المعركة.
أما الحياد فقد أحالته كتلة الحريري إلى “إعلان بعبدا”. وفي ترجمة سياسية لهذا الكلام، أنّ المستقبل لم يشأ استفزاز حزب الله، طالما أنه قد وافق سابقًا على “إعلان بعبدا”، علمًا أنّه عاد وانقلب عليه، وقال رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد ذات مرّة: ” بلّوه واشربوا ميّته”. وبمجرد الإشارة إلى إعلان بعبدا، فهذا يعني أنّ المستقبل مع حوار داخلي لعدم استفزاز الحزب، فيما لا بد من الإشارة إلى أنّ الحزب تنصّل من حوار العام 2006، وجلسات التشاور بعد حرب تموز، ومن اتفاق الدوحة، وتسوية سين سين، وصولًا إلى إعلان بعبدا.
خلال اللقاء مع الراعي، أقدم عدد من نواب كتلة المستقبل على انتقاد حزب الله، وإبداء الرأي المؤيد لمواقف البطريرك، وتحميل الحزب مسؤولية ما جرى، مع الإشارة إلى كيفية التكامل بين المواقف لتحميل الحزب المسؤولية، وتوصيفه بأنّه هو المسؤول عن عدم تشكيل الحكومة من خلال اللعب على أكثر من حبل. هنا تدخلت النائب بهية الحريري كرئيسة للوفد، ونهرت النواب قائلةً: “لم نأتِ لنناقش موضوع حزب الله وهذا ليس موضوعنا”. وهذه واقعة تؤشّر إلى وجود مجموعة آراء لدى تيار المستقبل، حول العلاقة مع حزب الله.
الرئيس سعد الحريري قرّر فجأة الإقلاع عن التهدئة من خلال البيان الذي أصدره قبل ظهر يوم الخميس، وحمّل حزب الله مسؤولية عدم تشكيل الحكومة، وردّ بشكل مباشر على الشيخ نعيم قاسم، معتبرًا أنّ حزب الله هو الذي ينتظر إيران، التي تمسك بكل الملفات وتجمّدها بانتظار حصول مفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية.وذلك بعدما اتهم قاسم السعودية بأنّها هي التي تؤخّر ولادة الحكومة.
لم يذكر وفد الكتلة في بيانه كلمة الطائف أبدًا، ولا الموقف من مبدأ الشراكة والمناصفة وفق الدستور والطائف، وهي التي لطالما اتّهمت رئيس الجمهورية وحزب الله بالانقلاب على الطائف
موقف الحريري ولو متأخرًا على عادته، متقدّم سياسيًّا، وأراد من خلاله الردّ على حزب الله وعلى رئيس الجمهورية. ولم يعد يحصر المشكلة بعون وباسيل. وهو -أي الحريري- وصل أخيرًا، إلى قناعة بأن لا إيران ولا حزب الله يريدان الحكومة، بل يرتاحان إلى التجاذب بينه وبين عون. وهذا ما عبّر عنه أمام شخصيات عديدة التقى بها مؤخّرًا.
إقرأ أيضاً: كلام البطريرك… بطريرك الكلام
تزامنًا مع قناعة الحريري هذه، كان يتم تسريب أخبار عن مبادرة يتقدم بها رئيس الجمهورية، حول تشكيل حكومة من 18 وزيرًا، لا ثلث معطّلًا فيها، مع تمسك عون بوزارة الداخلية. فقال الحريري لمن عرض عليه هذه المبادرة، بأنّها مناورة وليست مبادرة، وأنّ عون يريد انتزاع الداخلية وبعدها سيعود إلى نغمة رفع عدد الوزراء. خصوصًا أنّ مصادر مطلعة على اللقاء الذي عُقد بين باسيل والسفيرة الفرنسية في لبنان آن غريو، تؤكد أنّ باسيل كان مرتاحًا لمسار التعطيل، ويعتبر أنّه لن يتنازل أو يتراجع، ولا يمكن للحريري أن يمنح للشيعة والدروز ما يريدونه ويأخذ ما يريد للسنّة، بينما يحجب عن المسيحيين هذا الحقّ. وقد جدّد باسيل تأكيده أنّه لن يتنازل ولن يتراجع. وعندما قالت له السفيرة الفرنسية إنّ لدى الحريري مشكلة أساسية مع حزب الله حول تسمية الوزراء الشيعة، أجاب باسيل سريعًا :”الحريري كله قلبًا وقالبًا لدى حزب الله، ولن يختلف مع الحزب أبدًا”.
وسط كل هذه المواقف والمناورات، برز طرح غير مفهوم في توقيته من قبل وليد جنبلاط، الذي كان ليّنًا تجاه توسيع حجم الحكومة، وفتح ثغرة في أن لا تكون حكومة متخصّصين. موقف فسرّ بأنّه تحوّل يفتح الطريق أمام حكومة تكنوسياسية، بناءً على معطيات مستجدّة غير مؤكدة. ولم تتضح أسباب وخلفيات طرح جنبلاط هذا، خصوصًا أن لا بوادر على الإطلاق لتشكيل الحكومة، وربما هذه الفوضى السياسية في المواقف، ستلاقيها خلاصة عبّر عنها جنبلاط بوضوح: ما جرى قبل يومين هو فوضى مصغرة، فيما لبنان مقبلٌ على فوضى أكبر.