بكركي تواجه السلاح والإنقسام: انتهاء “العونية” شعبياً

مدة القراءة 5 د

يوم 27 شباط 2021 بجماهيره الزاحفة إلى بكركي للاستماع إلى خطاب البطريرك بشارة الراعي، أعلن عن أمرين مهمين:

– خروج الجمهور المسيحي على الفيلم الذي صنعه الجنرال وأراده أن يكون واقعاً قفصياً للمسيحيين إلى الأبد.

– الخروج من الخوف من السلاح غير الشرعي ووهجه، بسبب الاستمرار في استخدامه في أسر البلاد وتعطيل حياتها السياسية، وتدمير اقتصادها وسلمها الأهلي، وعلاقاتها بالعرب والعالم.

قامت زعامة الجنرال على اعتبار أنّ المسيحيين محاصَرون بالواقع الإسلامي الكثيف، وبالدستور الذي مثّل هذا الواقع. وفي خضمّ حملاته على هذا “الواقع” عمل بحماسة منقطعة النظير على تثبيت الانعزال والانفصال بالاندفاع نحو تحالف الأقليات: مع التنظيم المسلَّح من جهة، ومع نظام آل الأسد من جهةٍ ثانية. وتحت وطأة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتفكك 14 آذار بسبب الأنانيات التي سادت في صفوف قادتها، وبسبب الخوف من الاغتيال، وبسبب انقلاب المشهد في المنطقة بعد اتجاه الأميركيين إلى الانسحاب من العراق لصالح إيران… فإنّ انطوائيات التحريض على الكراهية والانفصال صارت تياراً رئيسياً في البيئات المسيحية.

في خطاب بكركي التاريخي بالفعل حرصٌ هائلٌ على السلم الأهلي، وعلى ثوابت لبنان في العيش المشترك والطائف والدستور، ورفضٌ للانهيار والفساد ودواعيهما، وللسلاح وحروبه، واتجاهٌ إلى العالم المعاصر الذي نريد أن نبقى فيه نحن اللبنانيين، ويريد الزعيم إرغامنا على مغادرته

ذكّرتْني الاندفاعة الجماهيرية للجنرال بكتاب المفكر اللبناني وضّاح شرارة في بدايات الحرب الأهلية في السبعينات من القرن الماضي، بعنوان: “خطّ اليمين الجماهيري”. أما في العقدين الأخيرين فهو خطّ الشعبوية الراديكالية.

فقد استند منطق وممارسات الانعزال والكراهية إلى تحالف رفاق السلاح مع الحزب والنظام السوري باعتبارهما الداعم والحامي والضامن. حتّى أنّ رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ذكر في حديثه الأخير أفضال النظام الأسدي (وليس الحزب المسلَّح فقط) على المسيحيين في لبنان: أنّ الرئاسة باقية لهم، ولو لم يبقَ منهم غير واحد. تصوّروا الأمجاد. هو  يتخيّل أنّ “الواحد” الأوحد هو جبران إلى جانب بشار الأسد.

ما كان يمكن أن يُخرج المسيحيين واللبنانيين من هذا القفص الذي وضع الجميع فيه الجنرالُ المهضوم والزعيمُ المعصوم، بعد وقوع الجميع أسرى أفكار العهد وممارساته والاعتقاد بضرورة المزايدة عليه والعجز عن ذلك، غير البطريرك وبكركي. وقد أخرجتهم بثورتها السلمية، خلال شهور من شعبويات الجنرال والهواجس، من سطوة الحزب والسلاح.

وما فعلته البطريركية ما كان سهلاً ولا ممهَّداً. إذ من خلال عظات البطريرك المتوالية، والثائرة من جهة على الواقع المستحيل والانهيار الشامل، ومن الجهة الأخرى على الطبقة الحاكمة، أحدثت تحوّلاً فكرياً وسياسياً باتجاه العودة إلى وثيقة الوفاق الوطني والدستور، وباتجاه الانفتاح على العرب والعالم بالمضيّ بثقة إلى المجتمع الدولي لطلب المساعدة.  

نعم، البطريركية قامت بالأمرين: الانفتاح على الداخل من خلال ثوابت وثيقة الوفاق الوطني والدستور، في مواجهة الحزب والعهد اللذين لا يقولان بهما فيعطلون الآن، من أجل التبديل غداً، والانفتاح على العالم الذي اعتبره الجنرال واعتبره الزعيم عدوّاً ينبغي الانعزال عنه ولو باتجاه الصين.

الجماهير التي تحشّدت في بكركي عندما أعلنت عن انتهاء العونية الشعبوية، أعلنت أيضاً عن رفض الخضوع لمزاح الحزب وحروبه، وعن الثبات مع اللبنانيين الآخرين من وراء وثيقة الوفاق الوطني والدستور، وقرارات الشرعية الدولية


لقد تردّدت الطبقة السياسية كلها، المعارضون فيها، والمنضوون في دعم خطاب البطريركية. ليس بسبب شعبوية الجنرال التي تصدّعت، بل بسبب التهيُّب من مواجهة السلاح غير الشرعي مع استمرار السطوة والاغتيالات. لكنّ زعيم الحزب لم يصبر على هذا التحدّي له ولحليفه، والذي ما عاد يشهده من سنوات، فاعتبر من جهة أنّ ما يفعله البطريرك “مُزاح”، وهو أيضاً إعلانٌ للحرب. ولذلك فإنّ الجماهير التي تحشّدت في بكركي عندما أعلنت عن انتهاء العونية الشعبوية، أعلنت أيضاً عن رفض الخضوع لمزاح الحزب وحروبه، وعن الثبات مع اللبنانيين الآخرين من وراء وثيقة الوفاق الوطني والدستور، وقرارات الشرعية الدولية.

إنّ ظروف الموقف البطريركي اليوم، أفضل بكثير مما كانت عليه عام 2000 عندما صدر بيان الموارنة الكاثوليك متضمّناً مطلب خروج الجيش السوري من لبنان . فوقتها، وحتّى عندما تطوّر موقف البطاركة من خلال تجمّع “قرنة شهوان”، ما كان الواقع الاقتصادي والمعيشي بهذا السوء، ولا كانت الظروف الإقليمية بذاك التوتر. أما اليوم فإنّ تحالف الاقليات أفضى إلى الانهيار الشامل الذي ما عاد ممكناً الصبر عليه، كما أنّ مواقف البطريرك حظيت بتأييدٍ واسعٍ من معظم فئات الشعب اللبناني. وهذا ما قلته للبطريرك عندما زرناه مع زملاء كثيرين يوم 25 شباط 2021، أي قبل يومين من”الفزعة” الكبرى في بكركي.

إقرأ أيضاً: من يحمي الدعوة البطريركية من أعدائها الكُثر؟

في خطاب بكركي التاريخي بالفعل حرصٌ هائلٌ على السلم الأهلي، وعلى ثوابت لبنان في العيش المشترك والطائف والدستور، ورفضٌ للانهيار والفساد ودواعيهما، وللسلاح وحروبه، واتجاهٌ إلى العالم المعاصر الذي نريد أن نبقى فيه نحن اللبنانيين، ويريد الزعيم إرغامنا على مغادرته.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…