فرضت كلمة البطريرك الماروني بشارة الراعي في المعارضين المحتشدين أمام صرح بكركي واقعًا جديدًا على الحياة السياسية في لبنان لم تكن في حسبان كثيرين، تحديدًا “حزب الله” الذي اطمأنّ إلى تحالفه مع “التيار العوني” بعدما أوصل رئيسه الجنرال ميشال عون ببندقية ما يسمى “المقاومة” إلى رئاسة الجمهورية. وها هي الرعيّة المارونية تعود إلى الراعي، الذي اختبر الحزب صلابته عندما يقرّر في أكثر من محطة سابقة.
لكنّ المفاجأة الأكبر أنّ البطريرك، الذي أعطى احتجاجات الناس في الشارع غطاءً معنويًّا، بحضّهم على عدم التراجع وعدم السكوت عن كل شعار ومطلب، لم يتوجه مرّةً من نافذة الصرح الديني القديم إلى المسيحيين أو الموارنة رعيّته، بل إلى اللبنانيين جميعًا في خطاب متقدم ووحدوي توافقي وتصالحي بامتياز. وبنبرة هادئة أعاد إلى بكركي دورها في المطالبة بحقوق اللبنانيين جميعًا في حياة كريمة وسلام واستقرار، ووطن سيّد حرّ مستقل. والأهم أعاد دور بكركي في الدفاع عن كيان وطنهم جميعًا، وما اتفقوا عليه منذ بدايات “دولة لبنان الكبير” وصولًا إلى “وثيقة الوفاق الوطني” التي أنهت الحرب، ولكنها تعرضت لانقلاب متمادٍ عليها، كما على الدستور والقرارات الدولية والمطالبة بحقوق اللبنانيين جميعًا. ولم يتضمن خطابه كلمة واحدة ولا أيّ إشارة إلى ما يناقض العيش المشترك الذي قام عليه لبنان، خلافًا لما لهجت به أخيرًا تحت هول الأزمة صالوناتٌ سياسية وتجمعاتٌ متفرّقة في الطائفة القلقة. وهو عندما تحدث عن تطوير النظام شدّد على التمسك بالمواثيق.
البطريرك، الذي أعطى احتجاجات الناس في الشارع غطاءً معنويًّا، بحضّهم على عدم التراجع وعدم السكوت عن كل شعار ومطلب، لم يتوجه مرّةً من نافذة الصرح الديني القديم إلى المسيحيين أو الموارنة رعيّته، بل إلى اللبنانيين جميعًا في خطاب متقدم ووحدوي توافقي وتصالحي بامتياز
انتزع الراعي عصا القيادة بثقة وسهولة لا تصدّق، ممن كانوا يعتقدون أنّهم يمسكونها في البيئة اللبنانية المسيحية، بعدما ثبت، حتّى لأنصارهم الصلبين، تخبّطهم وعجزهم عن تقديم تصوّر عملي للحلول. في المقابل فتح البطريرك آفاقًا أخرى عبر رفع عناوين حياد لبنان والمؤتمر الدولي، لمساعدته في تطبيق الدستور ووثيقة الوفاق الوطني وقرارات الشرعية الدولية. هذه وحدها كافية لتطرح على “حزب الله”، بصفته قوة داخلية تتبع دولة خارجية، معضلةً في التعامل مع فئة من اللبنانيين يدرك أنّها لن تلبث أن تتوسّع في كلّ الاتجاهات، لأنّ هذه العناوين غير طائفية ومحصورة، بل قادرة على النفاذ حتّى في محيطه الأقرب، بعدما وصل الحزب إلى نقطة استحالة حكم البلاد وتسيير أمورها في آنٍ واحد. فكيف بعدما أضاف الراعي في لاءاته وضوحًا، كضوء الشمس القوي، أن رفض سلاح الحزب وتمسّك بالدولة الواحدة والجيش الواحد والولاء للوطن فوق الولاء للدّين؟
أقل ما يُقال إنّه خطاب تاريخي بامتياز، صيغ بعبارات بليغة محض لبنانية. مثلًا معادلة “قوة لبنان في التوازن وليس في توازن القوى”، للكاتب محمد حسين شمس الدين. خطاب يوازي بقوّته وصراحته النداء الذي أطلقه البطريرك الراحل نصرالله صفير باسم “المطارنة الموارنة” في 20 أيلول 2000 ، ومهّد لسلسلة من الأحداث تعاقبت من تشكّل “لقاء قرنة شهوان” إلى “لقاء البريستول” وصولًا إلى خروج الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005.
بل إنّه خطاب مكمّل لنداء صفير ينسجم مع تغيّر الظروف وانكشاف الأدوار. لا يعني ذلك بالطبع أنّ التاريخ سيعيد نفسه، لكنّ تسارع الانهيارات في الدولة والمجتمع، يبدو أنّه سيفرض نمطًا أسرع من التطوّرات قد لا تتعدّى أشهرًا قبل أن تظهر معالم المؤتمر الدولي الذي يدعو إليه البطريرك، والتي لا تزال غامضة.
أقل ما يُقال إنه خطاب تاريخي بامتياز، صيغ بعبارات بليغة محض لبنانية. مثلًا معادلة “قوة لبنان في التوازن وليس في توازن القوى”، للكاتب محمد حسين شمس الدين
على سبيل المثال: أيّ دول أو جهات دولية تدفع في اتجاه عقد هذا المؤتمر؟ هل انعقاده ممكن بخلاف مصالح إيران في ظلّ رئاسة جو بايدن للولايات المتحدة، وسعيه للعودة إلى التفاهم النووي معها؟ وهل يبقى أمل في نجاح مؤتمر لإنقاذ لبنان إذا شارك فيه الأفرقاء اللبنانيون، وخصوصًا “حزب الله”، الخبير في الالتفاف على المبادرات واقتراحات الحلول الإنقاذية الدولية، كما فعل أخيرًا مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؟
الظروف الكارثية على لبنان، بمسيحييه ومسلميه، أجبرت البطريرك الماروني على تغيير أسلوبه المهادن، والمساير بَين بَين الذي انتهجه سابقًا، لعلّه يرضي الذئب والغنم، وهو اليوم في مواجهة يسعفه فيها سيلٌ في جبّته من الكلام المسالم والاستيعابي، الجزويتي لمن يريد أن يسيء الظن.
إقرأ أيضاً: كلام البطريرك… بطريرك الكلام
سيجد “حزب الله” بالتأكيد صعوبة في التعامل مع شخصية من وزن الراعي وطبيعته، مصمّم إلى درجة أنه لم يبدر عنه أيّ مؤشر قلق، خلال تداول فكرة تنظيم التجمّع في بكركي، حيال احتمال إطلاق هتافات تصف الحزب بالإرهابي وتدعو إلى إخراج إيران من لبنان. بل كان جلّ اهتمامه ألا يؤدي التجمّع إلى إصابات بالكورونا.
الحزب أمام شخصية مرتبطة بمرجعية روحية عالمية على الأهبة للقاء أهم مرجعية شيعية عربية، السيد علي السيستاني، خلال أيام، في العراق، تطالبه باحترام موافقته على مبدأ “النأي بالنفس”، أي حياد لبنان الذي وافق عليه الحزب في بعبدا أيام الرئيس ميشال سليمان وانقلب على موافقته لاحقًا.
هذه المرة يتعامل الحزب مع موقع يزداد قوّة وتأثيرًا كلما هاجمه، ولكلماته عن السلام، أمام الناس الثائرين والمحبطين، وقعٌ في لبنان والمنطقة والعالم، يستدعي من الحزب تأمّلًا طويلًا قبل الاندفاع.