على الرغم من انتهاء المهلة الممنوحة للمصارف من أجل تنفيذ التعميم رقم 154، اليوم، فإنّ مصرف لبنان لن يكشف النقاب عن أسماء المصارف غير الملتزمة قبل أشهر. هذا ما يمكن استخلاصه من “الأخذ والردّ” الدائر بين مصرف لبنان من جهة، وبين المصارف المحلية وجمعية المصارف من جهة أخرى.
المصرف المركزي الذي يرى في تعميمه “شروطًا جوهرية” لتفعيل عمل المصارف ولإعادة الثقة بالقطاع المصرفي كلّه، يحاول الإيحاء بأنّه صارم مع المصارف في تطبيق التعميم المذكور وغيره، من خلال البيان الأخير الذي أصدره، نافيًا أيّ عملية تأجيل أو ممطالة أو تساهل. إلّا أنّه في الحقيقة يحاول أن يُمسك عصاه من الوسط، لأنّه يعلم أنّ عملية التطبيق كاملة كما وردت في التعميم، وعلى أهميتها، ستكون صعبة جدًّا وتحتاج إلى مزيد من الوقت ومتابعة، ولهذا يحاول الفصل والتمييز بين بنوده ووظائفه.
مصادر مصرفية كشفت لـ”أساس” أنّ “المركزي لم يتشدّد في الحكم على تطبيق التعميم 154 كفاية”، وذلك نظرًا للأوضاع التي يمرّ بها لبنان، بدءًا بجائحة كورونا ومرورًا بالإقفال العام، ووصولًا إلى التعثّر الحكومي اليوم.
المصرف المركزي الذي يرى في تعميمه “شروطًا جوهرية” لتفعيل عمل المصارف ولإعادة الثقة بالقطاع المصرفي كلّه، يحاول الإيحاء بأنّه صارم مع المصارف في تطبيق التعميم المذكور وغيره، من خلال البيان الأخير الذي أصدره
المصادر تكشف أيضًا، أنّ التمييز في بنود التعميم ينقسم إلى جزأين:
1- “الملاءة”: يتحدّث التعميم عن ضرورة تكوين ما يعادل 3% من ودائعها بالعملات الأجنبية لدى المصارف المراسلة، والحصول على مؤن على سندات اليوروبوندز التي تحملها، وهذا الشقّ بحسب المصادر قد “تعاونت به المصارف بشكل كبير”.
2- “السيولة”: يتحدّث التعميم عن “حثّ” المودعين الذين حوّلوا ما يزيد على 500 ألف دولار إلى الخارج، قبل 3 سنوات من تاريخ صدور هذا التعميم، على إعادة 15% منها إلى لبنان، وتجمّيد قيمتها لمدة خمس سنوات بحسابات خاصة منفصلة، على أن ترتفع هذه النسبة إلى 30% في حال كان المودِعون من بين رؤساء وأعضاء مجالس إدارة البنوك، أو من بين الأشخاص المعرّضين سياسيًّا (PEPs)، وهذا الشق تقول المعلومات إنّ المصارف “تعاونت به بشكل أقل”.
المصادر تؤكّد أنّ جزءًا كبيرًا من المصارف المحلية “امتثل” لمضمون التعميم، من دون أن تحدّد شكل الامتثال ولا عدد المصارف الممتثلة أو تلك المتخلّفة، مكتفية بالقول إنّ “المصارف المتخلّفة بالكامل، إنّما هي اختارت ترك العمل في القطاع المصرفي طوعًا، ولا تزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة (أغلبها مصارف متفرّعة من مصارف رئيسية وتابعة لها) وإنّها هامشية بحجمها وبعدد مودعيها وحجم ودائعها، وأحدٌ لن يلاحظ انسحابها من القطاع المصرفي”، مؤكدة أنّ مودعيها “سيحصلون على أموالهم من دون أيّ مشاكل تُذكر”.
المصادر تؤكّد أنّ جزءًا كبيرًا من المصارف المحلية “امتثل” لمضمون التعميم، من دون أن تحدّد شكل الامتثال ولا عدد المصارف الممتثلة أو تلك المتخلّفة
وعليه، فإنّ “التجزئة” في تصنيف شكل الامتثال، وتساهل مصرف لبنان مع المصارف واعتماد “الرمادية” في مقاربة هذا الملف، ثم “تمييع” الإعلان عن المصارف المتعثّرة، تشي كلّها بشكل لا لبس فيه، أنّه سيكون صعبًا جدًّا على مصرف لبنان القفز فوق 3 حقائق أساسية، تؤدّي إلى الحكم على المصارف كلها بشكل موحّد في هذا التوقيت، وهذه الحقائق هي كالتالي:
أولًا، “قانون تعليق المهل”: هذا القانون أقرّه مجلس النواب الشهر الفائت، وقضى بتعليق مفاعيل البنود التعاقدية المتعلقة بالتخلّف عن تسديد القروض بأنواعها كافة، اعتبارًا من أوّل السنة ولمدة ستة أشهر من تاريخ نشر القانون.
هذا القانون تتمسّك به جمعية المصارف لتطالب مصرف لبنان بـ”المعاملة بالمثل”، فطالما أنّ المودعين سيكونون معفيّين من الدفع، لماذا لا تستفيد المصارف منه أيضًا؟ وقد ورد هذا الطلب في المطالعة القانونية التي رفعتها الجمعية إلى مصرف لبنان نهاية الشهر الفائت.
ثانيًا، غياب الخطة الإصلاحية: فالمادة الأولى من التعميم تطلب من كلّ مصرف “إجراء تقييم عادل لموجوداته ومطلوباته” من أجل الامتثال ولو بشكل تدريجي، للنصوص القانونية والأنظمة المصرفية المطبّقة على المصارف، “لا سيما المتعلّق منها بالسيولة وبالملاءة”.
هذا النصّ يفرض على المصارف إجراء عمليات مسحٍ شاملة لأصولها، ومن بينها الأموال التي قامت بتوظيفها لدى المصرف المركزي، الذي بدوره مدّ الحكومات المتعاقبة بها. ومنها أيضًا سندات الخزينة بالليرة اللبنانية وسندات الـ”يوروبوند” التي تخلّفت حكومة حسان دياب عن سدادها، وأعلنت إفلاس الدولة.
بهذا المعنى، فإنّ مصرف لبنان لن يكون في موقع يمكّنه ممارسة الضغوط على المصارف بشكل صارم، من أجل تقييم دين أو توظيف لم يقم هو أو الدولة بسداده إلى المصارف… وهذا يبرّر “المنطق الرمادي” الذي يتبنّاه مصرف لبنان.
ثالثًا، كبار المودعين: هؤلاء الذين هرّبوا أموالهم إلى الخارج هم من بين النافذين الذين يملكون سطوة على السلطة والسياسيين وعلى القطاع المصرفي، أو هم طينتها. بل أغلبهم هم من السياسيين الذين ستواجه المصارف (ومصرف لبنان أيضًا) أزمة إقناعهم بإعادة الأموال إلى الداخل اللبناني “بالتي هي أحسن”.
فمصرف لبنان سيكون في المرحلة المقبلة منكبًّا على مساعدة المصارف أو ربّما الضغط عليها وعلى كبار المودعين لإقناعهم بـ”تأمين السيولة”، وبالتالي، بأهمية استقرار القطاع المصرفي.
“التجزئة” في تصنيف شكل الامتثال، وتساهل مصرف لبنان مع المصارف واعتماد “الرمادية” في مقاربة هذا الملف، ثم “تمييع” الإعلان عن المصارف المتعثّرة، تشي كلّها بشكل لا لبس فيه، أنّه سيكون صعبًا جدًّا على مصرف لبنان القفز فوق 3 حقائق أساسية، تؤدّي إلى الحكم على المصارف كلها بشكل موحّد في هذا التوقيت
أما عن نوعية الضغوط التي سيمارسها على المصارف وعلى المودعين، فستكون بواسطة القانون 44/2015 الخاصّ بـ”مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب” الذي يلوّح به المصرف المركزي ويذكره صراحة في مضمون تعميمه.
أوساط مصرف لبنان تكشف أنّ الهدف من ذلك لن يكون أذيّة هؤلاء الأفراد ولا سلبهم ودائعهم، وإنّما سيكون الهدف تعزيز القطاع المصرفي. تقول هذه الأوساط: “فلنتذكّر أنّ هذه النِسب (15 و30%) بالعادة تُدفع في الخارج على شكل ضرائب تصاعديّة، ونحن لن نستحوذ عليها، وإنما سنجمّدها لمدة 5 سنوات مقابل فائدة ولن تكون خاضعة لأيّ قيود”.
إقرأ أيضاً: مسار إعادة الرسملة: المصارف قطعت نصف الطريق وأكثر… ماذا عن المودعين؟
في المحصّلة وإلى حينه، فإنّ المصارف غير الملتزمة (إذا وُجدت)، ستواجه خيارين: الدمج أو “وضع اليد” بواسطة مصرف لبنان الذي سيقوم بتعيين إدارة موقتة له، تدير عملية تسديد المتوجبات للمودعين. كما أنّ تطبيق هذا السيناريو، سيبدأ منذ لحظة كشف مصرف لبنان عن أسماء المصارف المتعثرة، وهنا تحديدًا “مربط الفرس”. فالبيان الأخير لمصرف لبنان يذكر أنّه “بعد تاريخ 28 شباط 2021، يتوجب على المصارف إرسال بياناتها كافة إلى لجنة الرقابة على المصارف، التي ستقوم بدورها بالتدقيق بها وإرسال التقارير المتعلقة بها إلى مصرف لبنان”، وقد تستغرق هذه العملية وقتًا ربّما يطول إلى نهاية شهر حزيران، أي إلى نهاية المهلة التي أقرّها “قانون تعليق المهل”.
أما أوساط المركزي فترى أنّ المصارف ستكون ملزمة بتطبيق التعاميم عاجلًا أم آجلًا، لأنّ الشحّ في السيولة سيؤدي حكمًا إلى أزمة ملاءة، ستؤدي حكمًا إلى إفلاس المصارف وإلى ضياع الودائع. ولهذا السبب فإنّ المصارف ستكون مضطرة إلى التعاون في تنفيذ تعميمات المركزي الداعية إلى “تأسيس السيولة” من أجل إعادة الثقة بالقطاع المصرفي، خصوصًا في ظل التخبّط السياسي الذي خلق “عامل ريبة” Uncertainty، وترافق هذا كلّه مع تعثّر حكوميّ، ربّما يطول وربّما يقضي على أيّ فرصة لوضع خطة إصلاحية واضحة.