لا يبشّر ملفّ الادّعاء على صرافي الفئة “أ” وعلى مصرف لبنان بكثير من الخير. لا أدلّة دامغة على تبديد الدولارات المدعومة من مصرف لبنان، ولا جهات متورطة عن حقّ. الملف يُختصر بتبادل تُهم وتقاذف مسؤوليات قد تؤدي مجتمعة في نهاية المطاف إلى إقفال هذا الملف الذي استنزف سمعة القطاع النقدي والصيرفي، بدفع غرامة يصل أقصاها إلى قرابة 135 دولاراً أميركياً فقط، أو مليون ومئتي ألف ليرة لبنان، قيمة مجموع الغرامتين على الصرّافين، لكلّ منهما 600 ألف ليرة.
فريق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومن خلفه يقول إنّه لا صلاحية للقضاء في الادّعاء عليه بهذه التهم، فيما فريق الصرافين يتّهم القضاء بتسييس الملف. القضاء نفسه يضع عدم قدرته على توسيع دائرة الاتهامات ضد الصرّافين المخالفين “الأشباح” في إطار العرقلة المقصودة بدوافع سياسية أيضاً… فيما المتضرّر الأكبر هو سمعة لبنان النقدية والمالية.
المدعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون كانت قد ادّعت على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيسة لجنة الرقابة على المصارف مايا دباغ بجرم الإهمال الوظيفي، وكذلك على الصرافين عبد الرحمن فايد وميشال مكتف، بجرم إساءة الأمانة.
مصادر قضائية مطلعة على الملف كشفت لـ”أساس” أن عون لم تدّعِ على الصرافَيْن المذكورَيْن “لأنّهما باعا دولارات مدعومة” وإنما لأنّهما “احتفظا بما تبقى منها من دون إعادته إلى مصرف لبنان أو لعدم تسطير محضر بالموجودة بغية إثبات النوايا الرامية إلى إعادتها”. المصادر تعتبر أنّه “لا يوجد نصٌّ قانوني يفرض على الصرّافين عموماً إعادة الدولارات إلى مصرف لبنان، لكن في المقابل، لا يحق لهم الاحتفاظ بها”. ويبدو أنّ القاضية عون قد استندت في ذلك، إلى كلام صادر من داخل لجنة الرقابة على المصارف، وعلى الأرجح إلى التحقيقات التي أجرتها مع رئيسة هذه اللجنة مايا دباغ التي أكدت بحسب ما نقلت المصدر لـ”أساس”: “عدم جواز إبقاء هذه الدولارات المدعومة لدى الصرافين”.
فريق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومن خلفه يقول إنّه لا صلاحية للقضاء في الادّعاء عليه بهذه التهم، فيما فريق الصرافين يتّهم القضاء بتسييس الملف
تتابع المصادر أنّه تبيّن للقاضية عون أنّ أكثر من صرّاف كان يبيع الدولارات المدعومة لصرافي الفئة ب، ولغير تجار المواد الغذائية، إلاّ أنّها بسبب شحّ الأدلة لم تستطع الإدّعاء على أكثر من هذين الصرافين، وبموجب المادة 770 من قانون العقوبات اللبناني التي تنصّ على أنّ “من خالف الأنظمة الإدارية أو البلدية الصادرة وفقاً للقانون، عوقب بالحبس حتى 3 أشهر وبالغرامة من 100 ألف إلى 600 ألف ليرة، أو بإحدى هاتين العقوبتين”.
كما أنّ عون تبدي امتعاضها من عدم تجاوب مديرية قوى الأمن الداخلي معها، التي يُفترض أن تلعب دور الضابطة العدلية المؤازرة لعمل أيّ مدعي عام. وهذا ما يبرّر عدد المتهمين المتواضع في صفوف الصرافين “المخالفين”، وتشير المصادر إلى أنّ عون “ليس لها القدرة، ولا تملك الوسائل لضبط ارتكابات الصرّافين بالجرم المشهود”.
وكان وكيل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة قد تقدم يوم الاثنين الفائت، بدفوع شكلية لدى قاضي التحقيق الأوّل في جبل لبنان نقولا منصور، كما حذا الحذو نفسه الصرّافان فايد ومكتف اللذّان استطاع “أساس” الوقوف على رأيهما في الملف.
في هذا الصدد، يقول مدير ومالك شركة مكتف للصيرفة، ميشال مكتّف، إنّ “الادّعاء سياسي بامتياز. فنحن تقدّمنا بدفوع شكلية، لأنّ القاضية عون لم تجد في ادّعائها مجالاً للتدخل إلاّ من خلال تفصيل يتعلّق بكيفية إدارة شركتنا، وكأنّها شركة تدقيق حسابات وليست قاضية. لقد وجدت أنّ الفرق بين عمليات الشراء وعمليات المبيع في يوم واحد فقط، بلغ 382 دولاراً أميركية وهذا ما اعتبرته جرماً بمخالفة قرار إداري”.
عون تبدي امتعاضها من عدم تجاوب مديرية قوى الأمن الداخلي معها، التي يُفترض أن تلعب دور الضابطة العدلية المؤازرة لعمل أيّ مدعي عام. وهذا ما يبرّر عدد المتهمين المتواضع في صفوف الصرافين “المخالفين”
يؤكد مكتّف أنّ شركته نظامية ولم تخالف القانون، وأنّها تواظب على تقديم قطع حساباتها بشكل دوري شهرياً، وهذه تفاصيل “لا قيمة لها أمام الضرر الرئيسي الذي تتسبّب به هذا النوع من الدعاوى” والمتمثّل بسمعة الشركة في الخارج، خصوصاً أنّ أغلب عمل مكتّف مع مصارف خارجية ومع الخزينة الأميركية، ويقول: “قد نجد أنفسنا مضطرين إلى تبرير هذه التُهم أمام المؤسسات المالية الخارجية وإلى إثبات براءتنا في تُهم لم نرتكبها أصلاً، وحينما تقول لهذه الجهات ثمة قضاء متحامل ومسيّس ضدنا… لا يصدقوننا!”.
ويضيف مكتّف أنّ القضاء اللبناني، في دعاوى كتلك، “يعرّض سمعة الشركة للخطر والأمر كلّه مرتبط بالمادة 770 وسقف عقوبتها غرامة بـ600 ألف ليرة لبنانية. بمعزل عن سمعة شركتي فهل هذا يخدم سمعة لبنان؟”.
في ختام حديثه يدعو “الجسم القضائي إلى أن يكون ملاذَ المواطنين الآمن، يلجأون إليه في زمن الأزمات. لكن ما يحصل هو بخلاف ذلك. تصاب بالاحباط حينما تراه يقف في وجه الشعب وفي وجه مطالبته بالتغير نحو الأفضل”. ويستطرد في القول: “هذا الكلام غير موجه للقاضية غادة عون فحسب، وإنّما للجسم القضائي عموماً، حيث الأكترية صامتة والاقلية المدعومة من العهد القوي تُمعن في كيل التهم… وهذا كله لمجرّد إلهاء الناس عن مشاكلها الحقيقية”، فيستدلّ إلى ذلك من خلال تفنيد كيف كان الادعاء موزعاً طائفياً: بين 2 مسلمين (فايد ودباغ) و2 مسيحيين (سلامة ومكتّف)، فيسخر قائلاً: “قضاء يحترم التوازنات الطائفية حتىّ في الإدّعاء. للأسف ما عدنا نملك ثقة في جهة محلية تنتشلنا من هذه الفوضى وأملنا معقود على الجهود الدولية”.
أما الصرّاف محمود فايد (شقيق عبد الرحمن فايد) فيقول لـ”أساس” إنّ القاضية غادة عون “تعتبر أننا خالفنا قرار إداري. نحن نبيع الدولارات المدعومة التي نحصل عليها من مصرف لبنان، والأخير لم يُخطرنا بموجب أيّ تعميم أو أي قرار حول كيفية بيع هذه الدولارات. النقابة وضعت الشروط وحدّدت الجهات الشارية: الطلاب والعاملات الأجانبيات وشركات المواد الغذائية، لكنّها لم تخبرنا ماذا نفعل إن بقي لدينا شيء من هذا الرصيد، فكنّا نضيفه فوق رصيد اليوم الجديد… ونبيعه”.
يضيف مكتّف أنّ القضاء اللبناني، في دعاوى كتلك، “يعرّض سمعة الشركة للخطر والأمر كلّه مرتبط بالمادة 770 وسقف عقوبتها غرامة بـ600 ألف ليرة لبنانية. بمعزل عن سمعة شركتي فهل هذا يخدم سمعة لبنان؟”
ويشرح قائلاً: “يعني إذا حصلنا على 20 ألف دولار في اليوم من المصرف المركزي وبعنا 18 ألفاً، فالقاضية اعتبرت أنّ الألفين المتبقيين بمثابة مخالفة إدارية، لكنها فعلياً ليست مخالفة على الإطلاق. فمصرف لبنان يعلم هذه التفاصيل من خلال الداتا التي تصله بواسطة المنصة المخصصة لهذه العمليات”.
وعلى غرار مكتّف يذهب فايد إلى شرح حجم الضرر الذي لحق بسمعته في الخارج، فيقول إنّ البنوك والصرّافين الذي يتعامل معهم في الخارج يسألونه عن سبب هذا الإدّعاء وأبعاده، ويسأل في الختام: “هل نستحق هذا التشويه كله من أجل عقوبة ثلاثة شهور سجن مع وقف التنفيذ يُستعاض عنها بغرامة من 100 إلى 600 ألف ليرة؟”.
إقرأ أيضاً: صرّافو الفئة “أ”: أهداف محتملة للعقوبات الأميركية
معلومات “أساس” تؤكد أنّ أكثر من صرّاف تورّط فعلاً في تبديد دولارات مصرف لبنان المدعومة، ولم توجّه إليهم أيّ تُهم في هذا الخصوص، وذلك باعتراف أكثر من صرّاف كشف صراحة كيف تتمّ عمليات التلاعب من أجل تحقيق الأرباح لما يصل إلى حدود 70 مليون ليرة لبنانية يومياً من خلال التلاعب بالمستندات ووجهات الاستعمال، وذلك خصوصاً من بين الصرافين المنتشرين في بعض مناطق بيروت والضاحية الجنوبية.
ربما فضّل القضاء ألاّ يذهب بعيداً في الاتهامات، وأن “يبعد عن الشر ويغنّي له”، لكن في الخلاصة فإنّ ملفاً قضائياً جديداً فشل في الوصول إلى الخواتيم. عجز عن المحاسبة وفرض احترام القانون، وسار في طريق إقفاله، كما العادة، على جملة شكوك وكلام حول صلاحيات واحتمال تدخلات سياسية، كلّها لا تساوي مجتمعة في نظر القانون إلاّ 135 دولاراً أميركياً، وهي قيمة الغرامتين على الصرافَين المدعى عليهم، في أعلى سقوفها”.