أخيراً… أعلن وزير المال غازي وزني تسلّمه “وفق الأصول القانونية” كتاب مصرف لبنان في شأن التدقيق الجنائي و”الإذن” المُعطى لشركة “الفاريز أند مارسال” باستئناف مهامها في لبنان، واعداً بأنّه خلال 48 ساعة سيرسل إلى الشركة جواب مصرف لبنان “بالتعاون إيجاباً معها بالنسبة للأسئلة المطروحة من قبلها”.
مصادر مصرف لبنان أكّدت لـ”أساس” أنّ الكتاب أُرسل فعلاً يوم الجمعة، لكنّ الوزير تحمّس لإصدار بيان نفي بذلك. والجديد في الأمر أنّ مصرف لبنان بات يصدر بيانات عن مراسلات يفترض أن تكون سرية. وهذا ما يحصل للمرة الأولى”.
“حرب المراسلات” بين الطرفين تعكس خفّةُ في التعامل مع قضية مصيرية، وقد توّجت بصدور ثلاثة بيانات دفعة واحدة عن مصرف لبنان في 12 شباط حول الكهرباء والتدقيق الجنائي والتعميم 154.
واستدعى الأمر ردّاً يوم السبت من المكتب الإعلامي لوزير المال أكّد خلاله أنّه “لم يصل حتى ما بعد انتهاء الدوام الرسمي من يوم الجمعة أي كتاب من حاكم مصرف لبنان حول التدقيق الجنائي. وما يسري على موضوع التدقيق يسري على كتاب الدعم والتحويلات إلى شركة كهرباء لبنان، إلا اذا كانت ثمّة أصول قانونية جديدة هي المراسلة عبر الإعلام”.
مصادر مصرف لبنان أكّدت لـ”أساس” أنّ الكتاب أُرسل فعلاً يوم الجمعة، لكنّ الوزير تحمّس لإصدار بيان نفي بذلك. والجديد في الأمر أنّ مصرف لبنان بات يصدر بيانات عن مراسلات يفترض أن تكون سرية. وهذا ما يحصل للمرة الأولى”
التراشق بالبيانات عبر الإعلام يكرّس واقعاً نافراً. التدقيق الجنائي لا يزال أسير منطق “حسابات الدكانة” من دون أن يرقى من جانب المعنيين به إلى مصاف “الواجب الوطني الملحّ”.
وزاد المشهد تعقيداً استنفار مصرف لبنان عبر إقفال “جسر الدعم”، خصوصاَ في ملف الكهرباء، ما لم يتمّ “اعتماد خطّة فورية لترشيد الدعم مع تحديد الأولويات ومصادر تمويلها الأمر الذي يدخل في صلب مهام الحكومة، وإبلاغ مصرف لبنان بها”، وفق ما جاء في كتاب المصرف المركزي.
صحيح أنّ ملفيّ التدقيق والكهرباء منفصلان في الشكل لكنهما يعكسان “نَفَساً” جديداً في آلية مقاربة المجلس المركزي في مصرف لبنان للملفات منذ تعيين أعضائه في 10 حزيران الفائت.
في الكتاب المُرسَل من مصرف لبنان إلى وزني الذي يؤكّد فيه التزامه بالقانون رقم 200 في شأن رفع السرية المصرفية عن كافة حسابات مصرف لبنان وتعاونه مع شركة “ألفاريز أند مارسال”، تضمّن للمرة الأولى ما يشبه التحذير بـ”ضرورة التزام الشركة المعنية بالموجبات كافّة التي تفرضها عليها القوانين ومعايير الـGeneral Data Protection Regulation (GDPR) على البيانات والمعلومات التي قد تستحصل عليها منعاً لتكرار واقعة تسريب قائمة المعلومات المقدّمة من قبل مصرف لبنان في إحدى الصحف العالمية“.
صحيح أنّ ملفيّ التدقيق والكهرباء منفصلان في الشكل لكنهما يعكسان “نَفَساً” جديداً في آلية مقاربة المجلس المركزي في مصرف لبنان للملفات منذ تعيين أعضائه في 10 حزيران الفائت
ووفق مصادر مصرف لبنان “استعجل الوزير وزني إصدار بيان قبل أن يتأكّد من أنّ الكتاب بات بحوزته”، مؤكّدة على “التعاون الكامل مع الشركة”.
مع ذلك، ثمّة سؤالان يطرحان بقوة داخل المجلس المركزي وهو الأمر الذي دفع مصرف لبنان ليشر إلى مسألة الـGDPR في كتابه:
أوّلاً: سبب عدم بدء الشركة الأميركية بالتدقيق بما حصلت عليه بنسبة 42% من حسابات مصرف لبنان.
وثانياً: من سرّب المعطيات التي حصلت عليها سابقاً “ألفاريز” إلى مجلة “فوربس”.
ويجزم أعضاء في المجلس المركزي أنّ “المجلس صاحب مصلحة بالتدقيق إن في الفترة السابقة أو الآن، والمرتكب عليه أن يتحمّل المسؤولية. لكن هل هناك دولة في العالم ليس لديها أسرار مالية وأمنية وسياسية؟”.
ولا يتوجّس المجلس المركزي من تقديم كامل المعلومات والحسابات إلى “ألفاريز” إنما من دخولها الى “سيستم” المصرف المركزي ومن خارج الأراضي اللبنانية!
وسبق لـ”ألفاريز” أن طلبت، من ضمن الاستفسارات الموجّهة إلى حاكم مصرف لبنان بعد صدور القانون 200، الولوج إلى أنظمة التدقيق المحاسبي وإطلاعها على آلية وهيكلية العمل التنظيمي في مصرف لبنان وقواعد الحوكمة فيه.
ويرى المجلس المركزي أنّ “هناك خصوصية وسرية تحيط ببعض الحسابات، منها ما يحصل إلكترونياً ولا يطلع عليه حتّى موظفو المصرف المركزي كالمقاصة مثلاً. أما الشركة فتطلب اليوم وضع يدها على كل شيء عبر دخول السيستم”.
وفيما تبدي أوساط المجلس المركزي “انفتاحاً كلياً على طلبات أي شركة تدقيق”، تلفت في المقابل إلى أنّ “مخالفة الشروط العالمية وعدم الالتزام بها يعرّض الشركة للمحاسبة”. وأكّدت: “ليس لدينا القدرة التقنية لمعرفة هذا الأمر في حال حصوله. وبالتالي، إذا كان هناك من مخطط لوضع اليد على معلومات ليست لحاجات التدقيق الجنائي سيصبح لبنان مكشوفاً مالياً بالكامل”.
لا يتوجّس المجلس المركزي من تقديم كامل المعلومات والحسابات إلى “ألفاريز” إنما من دخولها الى “سيستم” المصرف المركزي ومن خارج الأراضي اللبنانية!
وتوضح الأوساط: “طلب حماية الخصوصية لا يشمل مثلاً الهندسات المالية والحسابات الداخلية لمصرف لبنان. فهذا تحصيل حاصل. لكن هناك حسابات داخل المصارف أساساً هي محجوبة عن مصرف لبنان كحجم الودائع المالية للمواطنين مثلاً… ويفترض أن يتمّ الكشف عليها بسرية كاملة ووفق الأصول مع مراعاة الخصوصية”.
وتقول الأوساط “لغايات الشفافية والالتزام بأهداف التدقيق الجنائي وكي لا نُتّهم بعدم التعاون والتغطية على مرتكبين، سنضطر إلى التخلّي عن مصلحة الدولة العليا. لكنّ هذا الأمر غير سليم وغير جيد. فما هو المنطق مثلاً في طلب داتا طلاب لبنان…؟”.
إقرأ أيضاً: التدقيق الجنائي: هل يطال الحسابات الشخصية لسلامة؟
وفيما يُبرز المجلس المركزي، بكافة أعضائه، شفافية في العمل تعاكس “عقلية” المرحلة السابقة، ويسعى لتأمين مستلزمات التدقيق الجنائي، فإنّ مطلعين لا يزالون يشكّكون في أجندة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وأجندة المنظومة المرتبطة به منذ عقود، وحرصها على حماية نفسها كون التدقيق الجنائي المالي، إن حصل فعلاً، سيؤدّي إلى فكّ مسبحة هدر المال العام وكشف رؤوس كبيرة فاسدة ومن حوّل أمواله أو تلاعب بها بشكل غير مشروع.
ويرى هؤلاء أنّ “الأكثرية الساحقة من المعلومات التي رفض حاكم مصرف لبنان تسليمها سابقاً لم تكن تخضع لموجب السرية، لا سيما تلك المتعلّقة بعمليات مصرف لبنان منذ 2015 وهندساته وحساباته وتوظيفاته وقرارت المجلس المركزي وعمليات التدقيق الداخلي… ومع ذلك، تمرّد على قرار الحكومة بالتدقيق الجنائي. وحتّى اللحظة، وبعد نحو شهرين من صدور قانون رفع السرية المصرفية، لا يزال التدقيق الجنائي مجرّد تنظير في الهواء. وحاكم مصرف لبنان، بشخصه، مطلوب دولياً للتحقيق معه بتهمة تبييض أموال واختلاسات مالية”!
غداً في أساس: الاحتياطي “على الآخر”: استمرار الدعم وصيانة معامل الكهرباء بشروط… وإلا الانهيار الكامل!