ليس غريباً أن يترافق الانهيار اللبناني الشامل مع تهشّم واجهة لبنان الإعلامية والفنية، الزجاجيةـ لتتناثر بعدها شظايا خطابات من هنا وهناك، تخرج عن فنانين وإعلاميين وسياسيين و”مؤثرين” لا تستقيم على منطق ولا تعكس إلا هبوطاً حادّاً في وظائف البلاد الحيوية.
وفيما الناس مسجونون في بيوتهم بسبب الإغلاق الشامل لتدارك انتشار فيروس كورونا، يجدون أنفسهم طوال الوقت في مواجهة مع خطاب وعظي يخرج من وسائل الإعلام التي تستعين بـ”خيرة” مشاهير الفن لتلقّن الناس دروساً في الانضباط والعيش الصحيح “المدرسي” الذي لا يشوبه أيّ تفلّت أو “شغب”.
وإذ تلعب وسائل الإعلام هذه دور الناظر/ة لتصرخ في الناس “انضبّوا يا بلا مخ”، تلعب الحكومة ووزراؤها وأجهزتها دور المدير/ة التي تغيب وتحضر بحسب الحاجة إلى فرض شيء من الهيبة المفقودة، فيما يشكّل الفنانون والإعلاميون جيش الأساتذة الذين يحملون “المساطر” و”يربّون” الشعب ويؤدّبونه ويصوّبون مساره على “الصراط المستقيم”.
فيما الناس مسجونون في بيوتهم بسبب الإغلاق الشامل لتدارك انتشار فيروس كورونا، يجدون أنفسهم طوال الوقت في مواجهة مع خطاب وعظي يخرج من وسائل الإعلام التي تستعين بـ”خيرة” مشاهير الفن لتلقّن الناس دروساً في الانضباط والعيش الصحيح “المدرسي”
وهكذا نجد كثيراً من الفنانين والإعلاميين، مدفوعين بإدمانهم الشهرة، يتبرّعون للعمل مجاناً في إعطاء الدروس “الخصوصية” على أنواعها للشعب اللبناني، من دون أن يكون لديهم الاختصاص، ومن دون أن يكونوا قد مرّوا من أمام المواضيع التي يحاضرون بها، من تأديبه في سلوكه اليومي، إلى “تثقيفه” بأفكار “طبية” تبدو أنّها آتية من زمن آخر، مشبّعة بالخرافات التي كان يمكن تصديقها في العصور الوسطى في أوروبا مثلاً، وليس مع الثورة التكنولوجية والعلمية التي يشهدها العالم في العام 2021.
فأن يقول فنان لبناني مشهور إنّه لن يأخذ اللقاح لأنه يخاف من زرع شريحة في جسده تتحكّم بسلوكه واصفاً إيّاه بـ”المؤامرة” والوباء بـ”المؤامرة القذرة”، وأن تشكّك فنانة استعراضية لبنانية عالمية بحقيقة الوصول إلى لقاح “بينما لا يزال الإيدز والسرطان وأمراض أخرى بلا لقاحات”، وأن تخاطب أخرى جمهورها الواسع على تويتر بـ”لا تضعوا الموت والسم في أجسادكم”، لأنّ “اللقاح بدائي جداً وعلينا تنوير عقول الناس”، وأن تعتبر ثالثة كانت قد افتتحت “صباح الألف الثالث”، أنّ “اللقاح هو صفقة التاريخ” وأنّ “اللعبة اصبحت واضحة”، فهذا إن دلّ، يدلّ إلى القعر الذي وصلت إليه البلاد على مختلف المستويات، ومنها الفنّ والفنانين الذين يتمتعون بشعبية واسعة لدى مختلف شعوب المنطقة العربية. ومع ذلك تجدهم لا يبالون بصورتهم ولا بصورة وطنهم، ولا حتى بالأذى الذي يوقعونه في معجبيهم الذين يتخذونهم قدوة، وقد يأخذون كلامهم غير المسؤول على محمل الجدّ.
نجد كثيراً من الفنانين والإعلاميين، مدفوعين بإدمانهم الشهرة، يتبرّعون للعمل مجاناً في إعطاء الدروس “الخصوصية” على أنواعها للشعب اللبناني، من دون أن يكون لديهم الاختصاص
لا يقتصر الأمر على نظريات المؤامرة فيما يتعلق بكورونا، بل إنّ الإبداع الفني اللبناني وصل إلى العالمية مع تصريحات أطلقها “بوب ستار” شهير خلال برنامج واسع الانتشار سوّق خلالها لـ”زواج القاصرات”، ولخطاب ذكوري تنميطي يصادر حتّى الألوان، إذ رفض الفنان الجلوس على كرسي بلون زهري لأنّه يشعر أنّه “لون أنثوي”.
إقرأ أيضاً: رحل الساحر ميكي… العزاء بالساحر برّي
وإذا كان الفنانون يحاولون تصدّر المشهد لجهة هذا النوع من التصريحات المستفزة والمستدرجة للجدل وطبعاً للشهرة، أبى الإعلاميون إلا أن يتفوّقوا عليهم، فتقرع إعلامية “فضائحية”، جرس العنصرية بالقول إنّها “تقرف من النازحين السوريين” وإنّها لا تتناول الطعام إلا من أيادي اللبنانيين لأنّهم “أنظف”. فيما يلاحق مراسلون تلفزيونيون المواطنين الذين يعتاشون يوماً بيوم بالكاميرات لضبطهم و”التفسيد” عليهم للقوى الأمنية لتسطير مخالفات بحقهم لأنّهم ينتهكون قرار الإقفال العام.
وسط كل هذا الانحطاط يموت جان خضير، فنان من زمن مضى، بفيروس كورونا. هو أحد “تلاميذ” “المعلّمة والأستاذ” بلا “معلمية” وبلا “أستذة” على الناس. يموت جان خضير في أرذل زمن يمرّ على لبنان، اقتصادياً، وسياسياً، وإعلامياً وفنياً. وهو الذي رسم مع الراحلين ممن سبقوه، كابراهيم مرعشلي وهند أبي اللمع، البسمة والنبل والاحترام على وجوه المشاهدين. وهو الذي، اعتراضاً على تردّي الوضع السياسي، ترشّح في انتخابات العام 2018 عن مدينة طرابلس، تحت شعار: “انتخبوا من مثّل لكم لا من مثل عليكم، وانتخبوا من أضحككم لا من ضحك عليكم”.
هل تسمع ضحكاتهم المسعورة يا جان؟