اخترنا في موقع “أساس” مُخاطبتكم بشكل مباشر وعلني، حول العلاقات اللبنانية السعودية، التي ما وصلت يومًا الى هذا المستوى من التردّي، ولو لأسباب معروفة، كان جزءٌ كبيرٌ، بل الأكبر، من اللبنانيين سبّاقاً إلى الاعتراض عليها، وقاتل، ولا يزال، بشراسة في سبيل تصحيحها، واستعادة الدولة إلى موقعها العربي الطبيعي.
وليس في هذه الرسالة مجال للتوسّع في عرض المرتكزات التاريخية للعلاقة بين لبنان والمملكة، إلا أنّ ما ينبغي الإشارة إليه أنّه، وبسبب طبيعة الكارثة التي يمّر بها لبنان وارتباطها الجذري بثنائية الفساد والفشل، أنّ تجربتكم في مكافحة الفساد رغم ما سبّبته من نقاشات بين مشجّع على المبدأ ومعترض على الأسلوب إلا أنّها لاقت جمهورًا في لبنان، تمنّى علنًا لو تتسنّى له رؤية المسؤولين فعلياً عن نهبه وتبديد مقدّراته يتعرّضون للمساءلة والعقوبة.
لقد وقف اللبنانيون مع أنفسهم، وعبَّروا عن تطلعاتهم بأرقى أشكال التعبير، طوال أشهر، قبل أن تدفعهم خيبة الأمل، وتعنّت الطبقة السياسية، وهجمات عصابات “الحزب الحاكم” إلى مشهديات العنف التي رآها وتابعها العالم عبر وسائل الإعلام لأسابيع طويلة ومرهقة
لماذا هذا المدخل بالتحديد؟
لأنّ الفساد في لبنان كان في صلب ضرب المشروع الوطني السيادي ومشروع المواجهة مع سياسة التغوّل الإيراني، وأدّى في الكثير من الأحيان إلى حرف المبادرات الوطنية عن مقاصدها، ليحوّلها إلى مرتكزات يستند إليها المتغوّلون، المحليّون والإقليميون، لبسط المزيد من سلطانهم، ووضع لبنان بالكامل تحت الاحتلال السياسي وصولاً إلى الاحتلال العسكري.
وقد أدّى هذا المسار إلى تعقيد علاقات لبنان بالعرب عامةً وبالمملكة على وجه التحديد، وصولاً إلى الانسحاب السعودي شبه التام من كل آليات دعم لبنان سياسياً والاكتفاء بالدعم الإغاثي للعائلات اللبنانية المتعفّفة.
سمعنا من مسؤولين عرب، وقرأنا في الإعلام العربي، خطابات ملامة للبنانيين لا تقف عند حدّ، ومفاد معظمها أنّه على اللبنانيين أن يقفوا مع أنفسهم كي يقف العالم معهم. والحقيقة أنّ هذا الشعب انتفض في 17 تشرين الأوّل 2019 انتفاضةً غير مسبوقة، لا تزال مستمرّة حتى كتابة هذه السطور، على الرغم من كلّ قدرات ومقدّرات السلطة السياسية و”الحزب الحاكم” تحديدًا، على القمع والتزوير والتجاهل. مع العلم أنّ القابعين في بيوتهم تجنّباً للقمع هم أكثر عددًا وغضبًا من الموجودين في الشارع.
هناك لبنانيون تواطأوا مع الهيمنة المفروضة على وطنهم وآخرون استسلموا. لكن هناك فئة كبيرة لم تتواطأ ولم تستسلم، بل تظلّ عازمة على المقاومة لاستعادة سيادتها وحريتها والتأكيد على هويتها العربية
لقد وقف اللبنانيون مع أنفسهم، وعبَّروا عن تطلعاتهم بأرقى أشكال التعبير، طوال أشهر، قبل أن تدفعهم خيبة الأمل، وتعنّت الطبقة السياسية، وهجمات عصابات “الحزب الحاكم” إلى مشهديات العنف التي رآها وتابعها العالم عبر وسائل الإعلام لأسابيع طويلة ومرهقة. ثم زادهم انفجار مرفأ بيروت إحباطًا ودفع بالكثير من نخبهم إلى الهجرة بحثًا عن كرامةٍ وعيشٍ آمن.
أما من بقي منهم من شبيبة في الجامعات فقد عبّروا، بما تيّسر لهم من صناديق اقتراع طالبية، في ثلاث جامعات كبرى، خلال الأسابيع الماضية، عن مستوىً غير مسبوق من المقاومة السياسية لكلّ أحزاب السلطة، رفضًا للفساد ولتعطيل علاقات لبنان بالعالم.
هناك لبنانيون تواطأوا مع الهيمنة المفروضة على وطنهم وآخرون استسلموا. لكن هناك فئة كبيرة لم تتواطأ ولم تستسلم، بل تظلّ عازمة على المقاومة لاستعادة سيادتها وحريتها والتأكيد على هويتها العربية.
لقد تنبّه الفرنسيون، قبل غيرهم، إلى أنّه ثمّة حاجةً ماسّةً للموازنة بين “حرب التأديب” على الطبقة السياسية، وبين دعم مقوّمات صمود اللبنانيين، الذين بات أكثر من نصفهم تحت خطّ الفقر، بحسب تقارير البنك الدولي.
غير أنّ فرنسا، مهما كان مستوى الامتنان لها ولرئيسها إيمانويل ماكرون، ليست هي العمق الطبيعي للبنان، ولا تكفي وحدها في ظلّ التخلّي العربي عن اللبنانيين.
تغيب السعودية إذن في هذه اللحظات المصيرية والوجودية. وهي إذ تترك الجمل بما حمل، وتجلس بعيدًا، بانتظار حكمة لبنانية لا تكتمل، يُصارع مريدو الدولة والسيادة بشقّ الأنفس على جبهتين ساخنتين: واحدة تستعر في مواجهة طبقة سياسية مستفحلة وواقع داخلي شديد الصعوبة والمرارة، وأخرى في مواجهة المشاريع المسمومة العابرة للجغرافيا والخرائط، وعلى رأسها الخنجر الذي غرزته إيران عميقًا في خاصرتهم الرخوة. تلك الخاصرة التي ما برحت تقاوم، حتّى مع اشتداد النزيف.
اللبنانيون الشرفاء، من مسلمين ومسيحيين، الذين يقاومون بالصدور العارية واللحم الحيّ، أعتى قوّة فساد مسلّحة في المنطقة، يتطلّعون بكلّ صدق إلى إعادة نظر سعودية وعربية جديّة بأحوالهم وبضرورة دعمهم في ضوء المواجهة الشجاعة التي يقومون بها. كما يتطلعون إلى أن تكون السعودية، كما عهدها المخضرمون منهم، أو عهدها آباء الأصغر سنًا من بينهم: السند الذي يتطلّعون إليه لمتابعة مقاومتهم.
اللبنانيون الشرفاء، من مسلمين ومسيحيين، يتطلعون إلى أن تكون السعودية، كما عهدها المخضرمون منهم، أو عهدها آباء الأصغر سنًا من بينهم: السند الذي يتطلّعون إليه لمتابعة مقاومتهم
نحن لا نصدق، ولا أحد منا يتقبّل، أن لا تكون المملكة في طليعة الواقفين إلى جانب الشعب اللبناني وقواه الحيّة الفاعلة، لا سيما منظومات المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية والهيئات الدينية.
نعم، صحيح أنّ لبنان دولة محتلة سياسيًا، لكنّ غالبية شعبها يقاوم في كل لحظة رافضًا التسليم بإدارة حزب الله للبلاد. وهذه المقاومة الموزّعة على معظم الطوائف والمناطق، هي جسر العبور بين لبنان والسعودية لإعادة تصويب وبناء العلاقات وفق قواعد المصالح المشتركة والتزامات العروبة، وهي مقاومة تحتاج إلى كلّ أشكال الدعم لمنع الإطباق الكامل لحزب الله على الدولة وليصمد المواجهون على خطوط الدفاع السياسية الأمامية، عن لبنان وعن عروبته، وعن العروبة كلّها، أمام الاجتياح الثقافي والسياسي والمالي والعسكري الإيراني.
لا يغيب عن بالكم أنّ هناك لبنانيين أفراداً كثراً، والأقلّ من الجمعيات أوالمؤسسات، لا يسعون إلى دعمكم المادي لسدّ حاجةٍ لهم، بسبب اقتدارهم الذاتي، لكنّهم يرون في وقوفكم إلى جانب من يستحقّ الدعم، نصرًا لكرامتهم ودعمًا لقدرتهم على الصمود في مقاومة الاحتلال السياسي الإيراني، وفخرًا لعروبتهم التي لا يريدون غيرها هويةً وانتسابًا، ورفضًا لواقع دولتهم الضائعة.
لا تنظروا إلى حكومة تؤلف، أيًا كان رئيسها. لا مُصرّفَ الأعمال الفاقد لحقيقة دوره، ولا المُكلّف “الحامل والحالم”، بما لا تتحملّه بيئته أو أهله. فهو حامل أثقال شيطان الواقعية السياسية التي تؤدي إلى مزيد من العقوبات الدولية، والحالم ببناء ما تهدّم من لبنان دولةً ومؤسسات، استنادًا إلى تجربة مع التحالف الحاكم، وهي تجربة لا يرى أحد فيها النجاح، إلا هو وحده.
ولا تلتفتوا حتّى إلى مؤسسات رسمية ومسؤولين مُدانين، بل اذهبوا مباشرة إلى بيئتكم وأهلكم ومناصري عروبتكم وذكّروهم أنّهم ليسوا وحدهم في هذا العالم. لا تحمّلوهم مسؤولية تجربة مريرة لم يُسألوا فيها، ولا وافق على مسارها من عرف بوقائعها لاحقًا.
هؤلاء يريدون للسعودية أن تعلم، وهي قطعًا من العالمين، أنّهم أهل الأرض وملحها وحصادها الطيب، وأنّ خطيئةً واحدة أو أخطاءً كثيرة، لا يمكن أن تُشكل مدْعاةً لوصمهم ومعاقبتهم جميعًا. وإذا كان لا بدّ من الصفع على قاعدة الثواب والعقاب، فليكن الصفع موجهًا لمن يستحقه دون سواه. فهم الأكثر امتعاضًا وتجربةً وخيباتٍ من نتائج “الاستثمار” الذي انحصر في رجل واحد أو أكثر… ولا تزرُ وازرةٌ وزر أخرى.
لا تتركوا لبنان وحيداً يصارعُ عُتاةَ المُحتلّين، وجحافل العسكر الهاجمين على تاريخه وحاضره ومستقبله.
لقد أثلجت سياستُكُم في العراق صدور اللبنانيين، ولو أنّه ليس لديهم حتى الآن من يشبه مصطفى الكاظمي، كما وأعطتهم الأمل بأنّ العقاب الجماعي لشعب أعزل يقاوم، بسبب فئة شاذّة، ليس من شيم السياسة السعودية، مهما ارتفع منسوب التمادي.
اللبنانيون المقاومون، تماماً كالعراقيين المقاومين، يحتاجون إلى شهامة المملكة معهم، سندًا وعضدًا، لتأمين الشروط الموضوعية لاستعادة لبنان إلى موقعه الطبيعي، بالاتكال على القوى الحيّة في مجتمعه، لا على الطبقة السياسية.
نعم، ما بقي أحدٌ يعتبر نفسه وكرامته ووطنيته وعروبته في خطر إلاّ وتمرّد على هذا الواقع القبيح. فحتّى وليد جنبلاط وسمير جعجع خرجا أخيراً – ولو متأخّرَين – ليقولا كلاماً ما قالاه من قبل عن الاحتلال السياسي الإيراني. وإلى ذلك اجتمعت تسع مجموعاتٍ من أنصار الثورة والتغيير على بيانٍ واحدٍ وقّعت عليه شخصياتٌ اعتباريةٌ معروفة، بينهم زعماء أحزاب، ونوابٌ مستقيلون، وجماعاتٌ من أهل الرُشد في الحِراك، يرفضون الاحتلال السياسي القائم، ويتداعون للنهوض والمواجهة.
لقد سبق أن عُيِّر لبنان، ظلمًا وزوراً، بأنّه “شوكةٌ في خاصرة العرب”، وهو ما كان يومًا إلاّ وردةَ العروبة وأريجها. وردةً كان وسيظلّ، وإن كثرت الأشواك على جذعه، فلا تتركوا لبنان نهبًا لسطوة السلاح وجشع الفساد. لا تتركوا لبنان وحيداً يصارعُ عُتاةَ المُحتلّين، وجحافل العسكر الهاجمين على تاريخه وحاضره ومستقبله.
حين يُترك لبنان، لأيّ سبب من الأسباب، فإنمّا يذوي ويضمحلّ ويخسر جانباً كبيراً من دوره وحضوره ورسالته. وحين يفقد توازنه وتوازناته ونقاط جذبه، فإنّما يفقد معها ذاته، فيصير عبئًا على محيطه، كما على أهله وناسه، وآنذاك يستحيل دولةً فاشلةً تهرول بقضّها وقضيضها نحو جحيم لا يخمد ولا يتراجع أُواره.
حين تتركون لبنان، ستستفحل قوى الاحتلال فيه، وتحوّله، أكثر وأكثر، إلى منصّةٍ لقصف العرب، وإلى مراكز تدريب وتسليح وتصنيعٍ وتصديرٍ للسلاح والرجال والموت، نحو بلاد العرب. فلبنان هو مركز الأمن القومي العربي، ومنه تبدأ الصواريخ بالانطلاق نحو جدّة، وليس من اليمن.
ما عاد ضيق الوقت ولا تسارع الأحداث يسمح بترف الترقّب والانتظار. لنتحرّك سويًا نحو رأب هذا الصدع المدمّر، ولتبادر المملكة، قيادة وشعباً، كما عوّدتنا دائماً، إلى الاحتضان والمساندة.
اللبنانيون معكم، فكونوا معهم، ولا تدعوا التاريخ نهبًا لأخطاء الجغرافيا السياسية.
لا تتركوا لبنان وحيداً.
إقرأ أيضاً: من يجلس إلى طاولة التسوية؟ (1/3): توثبٌ قواتي وأريحيةٌ شيعية
إقرأ أيضاً: من يجلس إلى طاولة التسوية؟(2/3): تقوقعٌ درزي وضياعٌ سني