لا أعرف كيف أُكمل ما تبقّى من حياتي مع أم زهير. مع تلك المرأة العصبية التي لا تهوى إلاّ إطلاق الأحكام وإصدار الأوامر يُمنةً ويسرى: أبو زهير بدي تنبك، أبو زهير خلصوا الفحمات… أبو زهير… أبو زهير طيلة النهار… “وعلى خود واعطيني وما عاد فيني”.
آخر “نهفات” أم زهير منذ بداية الأسبوع كانت “التفتيق” على الخبز. فخبز الأفران الـ”أوردينار” (العادية) ما عاد يستهويها، وإنّما تطالبني كل يوم بجلب ربطة خبز مجانية من فرن تعتبره مميّزاً على أطراف الطريق الجديدة في منطقة قصقص، واسم هذا الفرن: “بيروت Bakery”.
أسألها عن الحكمة من تكليفي بمشوار بعيد كهذا من أجل توفير ألفي ليرة فقط، فتقول لي: “ما خصّ الفلوس. بعدين المشي مفيد إلك وهيدا الخبز فيه ريحة الغالي”.
لم أفهم ماذا تقصد بداية، إلاّ أنني آثرت اتّباع المبدأ العسكري القائل: “نفّذ ثم اعترض”… وذلك إلى حين أن صادفني جارنا أبي خالد عند مدخل المخبز أقف في الصف، فعاجلني بالضحك، ثم بالسؤال: “شو يا أبو زهير؟ قارط هالمشوار لتوفّر ألفين ليرة؟”.
آخر “نهفات” أم زهير منذ بداية الأسبوع كانت “التفتيق” على الخبز. فخبز الأفران الـ”أوردينار” (العادية) ما عاد يستهويها، وإنّما تطالبني كل يوم بجلب ربطة خبز مجانية من فرن تعتبره مميّزاً على أطراف الطريق الجديدة في منطقة قصقص
علمت لاحقاً بأنّ المخبز قد أُنشىء بجهود “جمعية بيروت للتنمية” العائدة لـ”لغالي ابن الغالي” وآل الزعني مشكورين مأجورين على وقوفهم إلى جانب “أهالي بيروت” في هذه المحنة وفي هذا الوقت العصيب، وأنّ الفرن لا يبغي الربح وإنّما هدفه مساعدة أبناء المنطقة فقط.
عدت من المخبز بعد أن شعرت بأنّ أم زهير قد أوقعتني في موقف محرج أمام أهل الحيّ واستغفلتني وضحكت عليّ، لكنّني واظبت على جلب الخبز لها من هذا المخبز البعيد عن بيتنا مئات الأمتار، ليس سعياً خلف الخبز المجاني وإنما من أجل أمر آخر أشدّ أهمية.
إقرأ أيضاً: “العام” و”السنة” في الدندنة
فعلتُ ذلك لأنّ مشواري كل يوم إلى “بيروت Bakery” يجعلني أستعيد شريط ذكريات خلت، وأشاهد بأم العين أين كان “أهالي بيروت” وأين أصبحوا. فخلال مشواري أمرّ بالقرب من الملعب البلدي ومن المدارس الرسمية العريقة في الطريق الجديدة وتلك الحديثة والمرمّمة، وكذلك بالقرب من مستوصف “الغالي الأصلي”، رحمه الله، المقفل اليوم، وبالقرب من المهنية التي بناها في أرض جلول، والتي باتت أشبه بـ”مزبلة”… فأذكر أين كنّا في العاصمة بيروت في حضرة رفيق الحريري، منكبيّن على العمران والبنيان والثقافة والرياضة، وكيف كان أهالي العاصمة معزّزين مكرّمين، وكيف أصبحنا اليوم “عم نشحد الخبز”!
*هذا المقال من نسج خيال الكاتب