ألقى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله خلال الأيام القليلة الماضية كمّاً كبيراً من المسائل والقضايا في ساحة النقاش والبحث، شاملاً الشؤون الاستراتيجية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، في مسعىً لتحويل نظرياته إلى حقائق، و”إنجازاته” إلى تاريخٍ آنيّ، يكتبه كلّ يوم، ويريد من الجميع المصادقة على صحة أقواله، مُلقياً بكلّ أدوات التحقير على مخالفيه في الرأي والمنهج ومستخفّاً بجميع أنواع الاحتجاج على تفرّده بالقرار الاستراتيجي ودسّ أصابعه في حياة اللبنانيين والعرب وسعيه إلى فرض نمط الحياة الإيرانية على أهل المنطقة.
يحتفي نصرالله بنفسه ويعظّمها ثم يتصرّف على قاعدة أنّ المنتصر يكتب التاريخ. فتراه يسارع الخطى لتحويل الوقائع الراهنة إلى تاريخ “الأمر الواقع”، استعداداً للزمن الإيراني المقبل. ولهذا لا بُدّ له من الاستناد إلى تاريخ من “المظلومية” أوّلاً ثم الانتصارات والأمجاد تالياً.
يهتمّ نصرالله بأن يسجّل أن “أمتنا، وشعوبنا وحركات المقاومة والدول وكل الجهات المعنية في هذه المعركة على مستوى المنطقة، عبّرت عن وفائها وشكرها واعترافها وتكريمها وتقديرها” لسليماني والمهندس، و”يجب أن نواصل هذا، فلا يجوز أن ينتهي التكريم بانتهاء الذكرى السنوية الأولى
تعمل مع نصرالله آلةٌ اعلاميّة ودعائيّة وسياسيّة ضخمةٌ هدفها تحويل كلّ هذه الجرائم والمجازر التي ارتكبها الإيرانيون في المنطقة إلى أعمال “إنسانية” و”ضرورية” ثمّ إلى أمجادٍ ومصدرِ فخر يدفع إلى المزيد من “الارتكابات المقدّسة” طالما أنّها باتت موضع تقديس وإلهام، كما هو الحال مع جميع رموز الحملات الإيرانية على العرب.
سعى “حزب الله” على مرّ الأعوام السابقة إلى إعادة كتابة تاريخ لبنان ليعطي عمقه المذهبي والجغرافي قداسة تتناسب مع ما يريد إملاءه على الرأي العام، ومنها رفضه توصيف أدهم خنجر بأنّه كان قاطع طريق، بل أصرّ حزب الله على اعتبار خنجر من أعمدة “المقاومة” للاستعمار الفرنسي في مسلسل “قيامة البنادق” الذي قام بإنتاجه “دفاعاً عن التاريخ المقاوم في بلادنا العربية، وفي جبل عامل تحديداً”. ليتوسع في تسجيل بطولاته من خلال مسلسلات “الغالبون” و”ملح التراب” و”بوح السنابل”، وهي أعمالٌ دعائية واضحة خالية من التوثيق العلمي ومعتمدة على التوجيه السياسي.
وكما يفرض أيّ احتلال ثقافته على البلد المُحتَلّ، يحصل الآن. إذ تقوم إيران، من خلال حزبها، بنشر تسميات الشوارع والساحات بأسماء رموزها، ومنهم قاسم سليماني. ومن المفارقات إقامة تماثيل له رغم أنّه سبق للحزب أن هدم تمثالين في بعلبك بذريعة رفض الأصنام، الأوّل كان للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، والثاني للشاعر خليل مطران.
يهتمّ نصرالله بأن يسجّل أن “أمتنا، وشعوبنا وحركات المقاومة والدول وكل الجهات المعنية في هذه المعركة على مستوى المنطقة، عبّرت عن وفائها وشكرها واعترافها وتكريمها وتقديرها” لسليماني والمهندس، و”يجب أن نواصل هذا، فلا يجوز أن ينتهي التكريم بانتهاء الذكرى السنوية الأولى”، كما جاء في خطابه الأخير بالذكرى السنوية الأولى لاغتيال المذكورَين.
الذاكرة التي حفرتها آلة القتل والتدمير وروتها أنهار الدماء وورثتها أجيال التهجير، لن تكون مثقوبة، وهي تؤسّس للمزيد من الصراعات وتدفع إلى المزيد من حفر الخنادق المذهبية على مدى عقود آتية
ما حصل فعلياً هو أنّ إيران استنفرت وكلاءها الذين تموّلهم وكلّفتهم بإظهار الولاء لها والتعبير عن ذلك من خلال إحياء ذكرى سليماني والمهندس، فأَجْرَتْ على ألسِنة هؤلاء ما تريده، وحوّلت هذه الإحياءات إلى أرشيف يصوّر أنّ “الأمة” تلهج بالدعاء لهما، بينما تعرّضت صورهما في قلب طهران للإحراق، وفي غزّة للإسقاط وفي لبنان للتمزيق، في تعبير تلقائي عن رفض فرض أمر وقائع غير مقنعة على الشعوب.
يراهن نصرالله على الذاكرة الضعيفة لدى شرائح كثيرة لا تجد نفسها معنيّة بالمواجهة، لكنّها لا تدرك أنّها مستهدفة في إطار المشروع الإيراني الذي يلغي من لا يواليه ويجعل منهم فئاتٍ قابلةً للشّطب في أيّ لحظة تستوجبها متطلّبات هذا المشروع الذي يستفيد من غياب الوعي والاهتمام لدى من يستهدفهم الإيراني بعدوانه على جميع المستويات.
لكنّ الذاكرة التي حفرتها آلة القتل والتدمير وروتها أنهار الدماء وورثتها أجيال التهجير، لن تكون مثقوبة، وهي تؤسّس للمزيد من الصراعات وتدفع إلى المزيد من حفر الخنادق المذهبية على مدى عقود آتية. وكلّما اختصرت الأمة زمن الاحتلال الإيراني، ضاقت مداخل الفتنة.
إقرأ أيضاً: السيّد يؤكد: لبنان أرض إيرانية
لا يُكتب التاريخُ في خطاب، ولا يتحقّق المجدُ باغتصاب. لكن للعدالة مجراها المحتّم الذي لا تحيد عنه. فالقاتل سوف يُقتل، ولو بعد حين، وكلّ احتلال إلى زوال، ولو بعد سنين، مهما أثار من دعايات ومهما حاول فرضه من وقائع.