مراطبين الغضب وبرندات الجوع على بلاط البوارج

مدة القراءة 4 د


يكاد يكون حضور حسن نصر الله الأكثر قوّة بين أقرانه من زعماء لبنان، لئلا نقول “المنطقة”: كاريزما شخصية استثنائية، وقدرة خطابية هائلة، وتسلسل أفكار شديد الذكاء، يستطيع أن يقنع المشاهد بالشيء وعكسه في لحظة واحدة. وهذه نادرة في السياسة. وقد تيسّر معها الكثير من الظروف المؤاتية التي لا مجال لتعدادها، أبرزها تحرير جنوب لبنان في العام 2000، وصمود جديّ أمام عدوان إسرائيل في 2006، وبروز عسكري في سوريا منذ 2011. وكلّ هذه الإنجازات العسكرية، المدعومة بالمال والسلاح والتنظيم والتدريب الإيراني، ساعدته ليبني صورة “بطل” يخرج على الناس ويطمئنها، فيصدّقه المستمعون، وإن لم يقتنعوا. حتّى أنّهم أرسلوا أولادهم إلى سوريا والعراق واليمن، سعياً وراء أوهام المجد التي أدخلها “سيّدهم” في رؤوسهم.

إقرأ أيضاً: الرجل الذي يعرف كلّ شيء… ولا يعلم شيئاً

وهكذا على جري كلّ خطاباته، بدأ نصر الله أمس الأوّل خطابه بالحديث عن “الانتصارات”، وابتدع مصطلحاً جديداً، عن أنّ “السلاح شرط وجود” وليس “شرط كمال”، أي أنّه مثل الهواء والماء، وليس مثل المال والكماليات. وأنهى حديثه بدعوة جمهوره إلى أن “حافظوا على غضبكم وعلى غيظكم وعلى قهركم. حافظوا عليهم، “لا تكبوا عليهم ماي باردة”، قد نحتاج هذا الغضب في يوم من الأيام، قد يأتي يوم نحتاج فيه هذا الغضب، لننهي كل محاولات جر لبنان إلى حرب أهلية، ولكن حافظوا عليه، ولكن امسكوه واضبطوه بإنتظار ذلك اليوم”.

هكذا بدأ خطابه “منتصراً” وأنهاه متفهّما لـ”الغضب”. ومن أين يأتي الغضب؟ أليس من التراجع؟ أو من تلقّي ضربة قاسية؟

في 17 حزيران الماضي، مع صدور قانون “قيصر” الأميركي، خرج على جمهوره ودعاه إلى اعتماد “المقايضة” كحلّ سحريّ للأزمة الاقتصادية

قبلها، في 7 تموز الماضي، كان نصر الله أطلّ على جمهوره في خطاب دعا جمهوره إلى “الزراعة”. وقال لهم إنّه حان الوقت ليزرعوا كلّ أرض ممكنة، وحتّى “البرندات” أمام منازلهم وأحواض الشبابيك. ذلك الجبل الهائل من الانتصارات يستطيع أن يقنع جمهوره أنّهم سينتصرون أكثر وأكثر، في حين يدعوهم ليزرعوا أمتاراً قليلة أمام بيوتهم، لا تكفي لسدّ رمق طفل وليوم واحد فقط.

 قبلها، في 17 حزيران الماضي، مع صدور قانون “قيصر” الأميركي، خرج على جمهوره ودعاه إلى اعتماد “المقايضة” كحلّ سحريّ للأزمة الاقتصادية. كان طرحاً اقتصادياً أين منه المشاريع الاقتصادية التي نقلت الحضارة البشرية من مكان إلى مكان. أعاد جمهوره آلاف السنوات، إلى مرحلة ما قبل اختراع العملة. يريدنا أن نقايض النفط بـ”منتوجات لبنانية”. أين هي هذه المنتوجات؟ لا أحد يعرف.  

انتقلنا من “فائض القوّة” إلى “فائض الغضب”، والجمهور يصدّق أنّه يعيش “زمن الانتصارات”

هي سلسلة خطابات متتالية، يظهر فيها نصر الله أمام جمهوره غير قادر على تقديم حلول، لأزمات يعيشونها وتخنقهم كما تخنق كل اللبنانيين. فأمام اختفاء الدولار اقترح “المقايضة”، وأمام الجوع اقترح “الزراعة” وأمام الشعور بالإهانة والغضب من مشهد البوارج الغربية “تحتلّ” المرفأ الذي كان له قبل أسبوعين، و”إلني”، كما يقول مناصروه من الشيعة في حديثهم عن “البور”، طلب منهم “كظم الغيظ” و”ادّخار الغضب”، ووعدهم بـ”حرب أهلية” حينها “يفشّون خلقهم”.

هكذا انتقلنا من “فائض القوّة” إلى “فائض الغضب”، والجمهور يصدّق أنّه يعيش “زمن الانتصارات”. أيّ انتصارات هذه؟ ونحن نسمع من الإعلام بتهريب عامر الفاخوري وبمجيء الـFBI للتحقيق في العنبر رقم 12، والآن تتمختر على شواطئنا البوارج فرنسية وبريطانية، وقريباً ربما أميركية وغيرها.

نحن في زمن “مراطبين الغضب” و”برندات الجوع” على بلاط البوارج.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…