أوّل إشارة وردت باسم “مرفأ بيروت” وصلتنا من خلال الرسائل المتبادلة بين ملك بيروت الفينيقي عمونيرا وبين فرعون مصر أمينوفيس الرابع المعروف بـ”أخناتون”، وذلك في مطلع القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ضمن ما يعرف بـ”رسائل تل العمارنة” الشهيرة. وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أنّ البناء الأول للمرفأ كان في القرن الخامس عشر قبل الميلاد. ورسائل العمارنة (أو مسارد تل العمارنة، أو أرشيف العمارنة) التي وجد فيها ذكر ملك بيروت “عمونيرا”، هي عبارة عن مجموعة كبيرة من الرُقم الطينية المكتوبة باللغة الأكادية (البابلية) والخط المسماري، وهي وجدت في أرشيف قصر الملك المصري أخناتون (أمنحوتب الرابع) في مقرّ حكمه (أخت أتون) تل العمارنة في مصر.
إقرأ أيضاً: وصنع المرفأ بيروت
وفي عام ولادة رسول الله عيسى بن مريم عليه السلام، كان الإمبراطور الروماني أوغسطس قيصر يرمّم المرفأ ويبني له سدّين على هيئة هلال على طرف كلّ واحد منهما برج، وربطهما بسلسلة حديدية للحماية. واستمرّ ازدهار مرفأ بيروت خلال العصر الروماني إلى قيام الدولة الأموية التي طوّرته ليصبح مركزاً للأسطول العربي الأول. ومنه استلهم منه الرسام البيروتي الكبير مصطفى فروخ (1901-1957) لوحته الزيتية الشهيرة الرائعة “معاوية يركب البحر”، التي صوّرت الخليفة الأموي الأول مع حاشيته وفرقة من جيشه في مرفأ بيروت، وهو يستعدّ لركوب إحدى سفن أسطوله.
تابع مرفأ بيروت ازدهاره في عهد الدولة الأيوبية (1171-1250م). ويُذكر أنّ القائد صلاح الدين الأيوبي دخل إلى مرفأ بيروت في 26 تموز 1187، وقام بزيارة قلعتها الشهيرة. وفي مطلع القرن الثالث عشر، أعاد الصليبيون تنشيط المرفأ وحمايته على طريقة أوغسطس قيصر مع بناء قلعتين على جانبي أطرافه، وكان له دور مهم في تلك الفترة لربطه التجارة البحرية بين الشرق والغرب. وفي عشرينات القرن السادس عشر، بدأت عناية الدولة العثمانية بمرفأ بيروت وتجهيزه عسكرياً وتجارياً. لكنّ دوره تراجع كثيراً في عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني، أي ابتداءً من العام 1625، لأسباب عسكرية في الأغلب. لكن بحلول سنة 1804، كانت بداية انطلاقة قوية وجديدة للمرفأ في عهد الأمير بشير الثاني الكبير بعد وفاة أحمد باشا الجزار. لكنّ المرفأ لم يتزعّم باقي الموانىء اللبنانية إلا بحلول سنة 1832 مع دخول إبراهيم باشا المصري إلى بيروت.
في سنة 1864، تمّ إنشاء حوض بجانب مبنى الجمرك، وأقيم بالقرب منه مخازن للتجار تكفل الحفاظ على أموالهم خلال وجودها في الدائرة
كتب العميد مختار عيتاني رحمه الله، والمؤرخ عبد اللطيف فاخوري أطال الله في عمره، في كتابهما “بيروتنا”، أنّه في عهد إبراهيم باشا ازدهر مرفأ بيروت، فأصبحت مخازن المدينة مليئة بالبضائع الأوروبية والأميركية. واتخذ التجار الأجانب والقناصل الطريق التي كانت تعرف بـ”طريق الملاحين” الممتدة على الشاطىء بإزاء المرفأ، مركزاً لسكنهم ولممارستهم التجارة. وامتلأت المدينة بالسلع المختلفة أنواعاً ومصادر، وثبت مثلنا العاميّ القائل: “رزق البحر بحر”.
في سنة 1864، تمّ إنشاء حوض بجانب مبنى الجمرك، وأقيم بالقرب منه مخازن للتجار تكفل الحفاظ على أموالهم خلال وجودها في الدائرة. هذا التطوير جاء بمساعٍ من والي سورية الذي كلّف ناظر رسومات بيروت إبراهيم بك بمعاونة رئيس الميناء حسن الكعكي لاتخاذ إجراءات تقي المراكب من سطوة الأمواج. أما بعد هذا التاريخ، فقد جرت دراسات لإصلاح وتطوير المرفأ بجهود الواليين مدحت باشا وفخري بك (رئيس بلدية بيروت في ذلك الوقت) تقرر فيها إنشاء مرسى انطلاقاً من نقطة الشامية قرب خان أنطون بك المعروف، وسلّمت التعليمات بشأنه إلى الكونت الفرنسي De Perthuis، لكن المشروع لم يكتب له النجاح.
وفي حزيران 1887، صدرت “إدارة سَنيّة عثمانية”، أي أمر من الباب العالي، بمنح امتياز إنشاء المرفأ للشركة الفرنسية ممثّلة بيوسف أفندي المطران. وفي سنة 1889، بدأت الأعمال الإنشائية، لكن بخطوات محدودة وخجولة وشبه معدومة استمرت حتى سنة 1893 التي شهدت البداية الفعلية للشركة الفرنسية بأعمال الإنشاء والتعمير. وفي العام 1934، تمّ بناء الحوض الثاني وتمديد السدّ. وفي سنة 1960، أُعلنت الشركة المستثمرة للمرفأ شركةً وطنية وتحت وصاية الحكومة اللبنانية، وأُنشئ الحوض الثالث سنة 1962. وبدأت أعمال إنشاء الحوضين الرابع والخامس ابتداءً من منتصف الستينيات.
النكبات التي شهدها مرفأ بيروت عبر التاريخ:
– سنة 586 قبل الميلاد: ملك بابل نبوخذ نصّر يدمّر بجيشه الكلداني كلّ ما في طريقه على ساحل بلاد الشام، ومنه مرفأ بيروت بعد تغلّبه على المصريين.
– سنة 143 قبل الميلاد: دُمّر مرفأ بيروت والمدينة بأكملها على يد الأمير السلوقي ريودوتس (الملقّب بتريفون) بعد محاولته الانقلاب على الملك الملك أنطوخيوس السادس.
– الزلازل تدمّر بيروت ومرفأها في الأعوام الميلادية 349 و551 و1261 و1759. ويتأثر المرفأ بأضرار طفيفة في زلازل 502 و529 و543.
– سنة 974: الإمبراطور البيزنطي يوحنا زيميس يبيح لجنوده تدمير بيروت ومنشآتها ومنها المرفأ.
– سنة 1100: تضرّر مرفأ بيروت نتيجة المعارك بين الجيوش الصليبية المتجهة إلى فلسطين والقوات الإسلامية بقيادة والي بيروت الأمير العبيدي سعد الدولة الطواشي.
– سنة 1110: جنود الملك بولدوين الصليبي يستبيحون المدينة ويدمّرون مرفأها ومبانيها بعد حصار بحري استمر 11 أسبوعاً.
– سنة 1840: أساطيل القوات المتحالفة العثمانية والنمساوية والبريطانية تدكّ مرفأ بيروت وقلعتها وباقي المدينة بالقذائف لإجبار إبراهيم باشا المصري على الخروج وجيشه من المدينة.
– سنة 1912: في 24 شباط صبّت مدفعية قطع من الأسطول الإيطالي حمم قذائفها على بيروت، وكان الخراب الأكبر من نصيب مرفأ المدينة والمباني المجاورة له.
– خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية: مرفأ بيروت يتعرّض لغارات بالطيران.
– الحرب الأهلية 1975-1990: مرفأ بيروت يلقى نصيبه من الضرر والتعطيل.
– 4 آب 2020: النكبة الكبرى.
*باحث وناشط في التراث البيروتي