لم ترتبط حياته فقط بمسارها، ولا ارتبط مصيرها بحضوره، بل كأنّه أعاد بناءها من جديد، وبنى سيرة لها، ستكون الحكاية التي نعرفها، والتي ستنقلها من مؤسسة عادية بمبنى واحد، إلى مؤسسة يصعب أن نجد مثلها في لبنان، لتصير “دار الأيتام الإسلامية”، بـ56 مبنى ومشروعاً، حول لبنان.
هي إحدى أعرق المؤسسات الخيرية الاجتماعية في لبنان والمنطقة، وُلِدَت على يدي محمد بركات أو وُلد هو على يدها قبل 51 عاماً من تقاعده. قبلها كان واحداً من رجال الأعمال الناجحين، وأمهرهم في التواصل وبثّ الثقة بين شركائه وزبائنه على حدٍّ سواء. فيقول عارفون إنّه لم “يطلب” يوماً مالاً من متبرّعين، بل كما لو كان “يعطي” المتبرّعين الذي هو سائله، في عكس لبيت زهير ين أبي سلمى: “تراهُ إذا ما جئتَه متهلّلاً / كأنّك َ تُعطيه الذي أنت سائلُهُ”.
بدلاً من أن يقتفي آثار والده، التاجر والصناعي، قرّر أن يمزج التجارة بالإيمان والعلم. ألم يقل الكتاب الكريم: “إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ”.
هكذا هو، وهب حياته، طوال أكثر من خمسين عاماً (1961-2012)، ليبني للأيتام داراً.
إقرأ أيضاً: محمد بركات “تبع دار الأيتام” (2/1)
في البداية، نشأ محمد بركات مقاصدياً، وفتح عينيه في بيت الأطفال، حيث أبدع الأستاذ رشاد العريس، الملقب بـ”بابا رشاد”، وحتّى تخرّجه من كلية المقاصد – الحرج، بحصوله على شهادة البكالوريا.
ولرشاد العريس، هو الآخر، أيادٍ بيضاء في تطوير حضانة الأطفال في لبنان. وتجربته رائدة في التكيّف مع الحاجات التربوية للأطفال في المرحلة التي تسبق المرحلة الابتدائية، من خلال تنمية قدراتهم ومهاراتهم في تلك السنّ المبكرة، وهو ما يتطلّب في المربّي قدراً عالياً من الحنان الأبوي، والرعاية اللصيقة. ولعلّه لم تفارق تلك التجربة محمد بركات بمسيرته الطويلة في دار الأيتام، فكان “بابا محمد”، ع أيتام الدار، كما كان رشاد العريس “بابا رشاد” في بيت الأطفال.
بالنسبة إلى “الطفل محمد”، كان “بيت الأطفال” ذا مستوى راقٍ، يعلّم الأطفال عزف الموسيقى والغناء والتمثيل، فيزرع حبّ المدرسة في قلوب الأطفال، ويعمّم البهجة والفرح، ويشرّبهم مبادئ مبسّطة من العلوم. وربما كانت هذه التجربة مُتوهّجة في طفولته، وفرضت نفسها على رؤيته في إدارته “دار الأيتام”. تلك التي غيّر صورتها النمطية من دار للحزن والتعاسة، إلى واحة بهجة، عامرة بالأنشطة من كل نوع ولون. لهذا كان قراره تعليم الأيتام الغناء. كانت ثيابهم موحّدة، فجعلها جميلة. كان فخوراً جدّاً بهم، وكانوا هم فخورين به.
لا تقوم فلسفة الرعاية الاجتماعية على مبدأ حبس الأطفال اليتامى المحرومين من عطف الآباء والأمهات، بعيداً عن أنظار المجتمع، بل لا بدّ من تهيئتهم وتنشئتهم ليكونوا أعضاء فاعلين في المجتمع، ينتمون إليه، ويتفاعلون فيه. كما على المجتمع أيضاً أن يتآلف مع أبناء الدار، وأن يدمجهم في شرائحه المختلفة. لهذا، تطوّرت الرعاية الاجتماعية في عهد محمد بركات، لتكون دار الأيتام نافذة مفتوحة دائماً على المجتمع، تنشر الدفء في جنباته، وتزرع الحنان في أرجائه. وهذا التفاعل السلس بين المجتمع والدار، وفي الاتجاهين، هو سرّ أسرار التجربة الناجحة والمميزة لمحمد بركات.
ثمة محطات أخرى، لا تقلّ أهمية في مسيرته، منها انتقاله إلى الجامعة اليسوعية، التي فتحت مداركه. ابن المقاصد الإسلامية درس التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة في “اليسوعية” المسيحية في ذلك الزمان . خلطة سحرية، وانتقال بين بيئات ثقافية ودينية متباينة، حفر عميقاً في معالم شخصيته. وبين “الإسلام” و”المسيحية”، وبين التاريخ والفلسفة، وبين علم الاجتماع وتجربته الشخصية، كان يتابع والده في مجالي التجارة والصناعة. وإلى جانب الوالد صقل مهارات التواصل مع الناس، التي ستكون زوّادته الأساسية في تجميع المحبّين حول الأيتام ودارهم.
سافر إلى ألمانيا أربعة أشهر للاطلاع على التطوّر الصناعي هناك والعودة لمساعدة والده الذي يملك مصنعاً للألبسة. عمل معه ما بين 1951 و1960، أي قبل تولّيه إدارة “دار الأيتام”. 9 سنوات بين أعوام مراهقته الـ16 وبين أعوام شبابه الـ25. في هذه الأعوام سافر إلى فرنسا حيث زار المصانع المهمة.
وفوق هذا وذاك، استهواه العمل في الشأن العام، فنشط ثقافياً وسياسياً في “النادي الثقافي العربي”، وفي “نادي المقاصد”، وكذلك كان من البارزين في دعم “قضية فلسطين”، وسحرته معركة الاستقلال في الجزائر.
تحمّس لقضايا العرب على اختلافها، وبرز على المنابر وفي تظاهرات الطلاب، فلفت أنظار مدير كبير في الجامعة اللبنانية. ومن هناك جاءه العرض الذي سيغيّر حياته: إدارة “دار الأيتام”. الرسالة اعتبرت أنّه “يتميّز بالمواصفات المطلوبة: أن يكون شاباً، ونشيطاً، وذكياً، وسريع البديهة”.
لم يقبل محمد بركات المهمة بسهولة. فهي ليست عرضاً وظيفياً مُجزياً، ولديه عمل مريح ومربح. بل هي مسؤولية، ومن ألقاها على عاتقه كان لديه نظرة ثاقبة، ورؤية سليمة.
لم تذهب هدراً جهود “بابا رشاد” في زرع بذرة المحبة والحنان داخله، عندما كان تلميذاً في مدرسة “بيت الأطفال”. ولم تَخِب نظرة القاضي الموهوب محمود نعمان في مسار ارتسم أمامه مذ رآه
ففي مطلع الستينيات، بلغت “الدار” سنّ الشيخوخة، وكانت في حاجة إلى شاب يجدّد نشاطها، وإلى رجل ينتمي إلى جيل قريب نسبياً من أعمار الأيتام. وكان لقاؤه الفاصل مع أمين عمدة الدار القاضي محمود نعمان، الذي تمكّن من إقناعه بالتطوّع، ولو مؤقتاً لشهر أو اثنين، ريثما يُعثر على مدير أصيل.
والقاضي نعمان من الشخصيات البيروتية الناشطة في الشأن العام. لم يترقَّ فقط إلى أعلى المناصب القضائية، ثم سلك طريق المحاماة، والتدريس في جامعة بيروت العربية، والتأليف في مجال الحقوق، بل هو كذلك مقاصديّ، وقائد فوج فيصل الأول في الكشاف المسلم بمدرسة المقاصد – الحرج. وتسلّم رئاسة “جمعية الكشاف المسلم” بين 1958 و1960. ثم انتُخب عضواً في مجلس أمناء جمعية المقاصد عام 1944. وكان أمين سرّ العمدة في “دار الأيتام” حين عرض على بركات المهمة. ومن يتصفّح سيرة القاضي المتعدّد الأنشطة والمواهب، سيفهم كيف اختار محمد بركات، وما هي المعايير التي أدرك انطباقها عليه، ولم يكن الشاب محمد حينذاك ليدركها تمام الإدراك، لا سيما أن محمد بركات كان هو أيضاً ناشطاً في الكشاف المسلم عندما درس في مدرسة المقاصد-الحرج.
عمل محمد بركات شهرين في دار الأيتام، خارج موسم صناعة الألبسة. وخلال هذين الشهرين، أحبّ العمل واستهواه، كما أحبّه الموظفون. بعدما نظّم عدداً من الأنشطة في المؤسسة، لم يكن ينتظر سوى اختلاف في وجهات النظر بينه ووالده، فتحوّل الشهران، بسحر ساحر، إلى 51 عاماً.
لم تذهب هدراً جهود “بابا رشاد” في زرع بذرة المحبة والحنان داخله، عندما كان تلميذاً في مدرسة “بيت الأطفال”. ولم تَخِب نظرة القاضي الموهوب محمود نعمان في مسار ارتسم أمامه مذ رآه.
دارس التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة لم يكن سوى طالب نجيب في مدرسة الحياة التي أرساها والده، بين العلم والانفتاح والتجارة والصناعة، ليصير محمد بركات عالماً من علماء المجتمع اللبناني، فاهماً أسرار أيتامه، وليصنع “الأمل”، بتجارة المحبّة، في دار كانت تشيخ، فأعاد إليها فلسفة الشباب، وصنع لها تاريخاً بديعاً.