لا مفرّ من “صندوق النقد” وتعويم الليرة

مدة القراءة 5 د


 

أضاف خفض تصنيف لبنان من قبل وكالتي “ستاندرد أند بورز” و”موديز” تعقيداً جديداً لمشكلة استحقاقات الدين الضاغطة. وربما هو تذكير بالتبعات العملية لتوجّه يتبلور لدى الحكومة للتوقف عن السداد، وبدء مسار معقّد لإعادة هيكلة الدين العام.

الوكالتان تتوقعان شكلاً من أشكال التخلف عاجلاً أم آجلاً، وليس في ذلك ما يفاجئ المتابعين في لبنان. إذ جلّ النقاش ينحصر في التعامل مع الاستحقاقات القريبة في آذار ونيسان وحزيران، ومجموعها 2.5 مليار دولار، عدا الفوائد.

ما يرشح من نقاشات أهل الحكم هو توجه ثلاثي الركائز: التوقف عن السداد، والاستعانة التقنية بصندوق النقد الدولي، وعدم الدخول في برنامج (تمويلي) مع الصندوق الدولي، تفادياً لشروطه الثقيلة في السياسة والاجتماع.

إقرأ أيضاً: باعوا الـ”يوروبوند” هرباً من الهيكلة؟

هذه الركائز تعني في البعد العملي، البحث عن صيغة للتسوية مع الدائنين، بالموارد الذاتية، ومن دون الحصول على تمويل استثنائي، باستثناء تلك القروض التي أقرت في مؤتمر سيدر، والتي تسمح بدخول بعض الدولارات إلى البلاد، من البنك الدولي وسواه، مع تعديل في أولويات الإنفاق، لتصبح الكهرباء على رأس القائمة، نظراً لارتباط ملفها مباشرة بعجز الميزانية.

المشكلة في المقاربة الحكومية، إن ثبتت دقتها، وعلى افتراض أنها تأخذ المخاطر القانونية بالحسبان، أنها لا تجيب، حتى الآن، على أربعة أسئلة أساسية:

1-  كيف ستموّل الدولة إنفاقها في السنوات القليلة المقبلة؟ فإعادة الهيكلة، مهما كانت شروطها، لن تصفّر عجز الميزانية. وتالياً، ستظلّ حاجات التمويل قائمة، وستظلّ سوقا التمويل الدولية والمحلية مغلقتين. الدولية بسبب ضعف التصنيفات والصيت السيئ الذي يترافق عادة مع إعادة هيكلة الدين، والمحلية لأن قاعدة التمويل، المتمثلة بالودائع المصرفية، تلقت ضربة قاصمة، لا أمل بالتعافي منها في المدى المنظور.

2- ما مصير القيود على حركة رؤوس الأموال؟ ولماذا سُحبت مسودة تعميم مصرف لبنان في هذا الشأن من التداول، بعد أن ظلّت لأسابيع في درجي رئيس الحكومة حسان دياب ووزير ماليته غازي وزني؟ هل للأمر علاقة بالخوف من انهيار بعض البنوك في حال أُلزمت بتطبيق تلك المعايير الموحدة للسحوبات والتحويلات؟

3- كيف ستعالج الحكومة الإفلاس التقني للكثير من البنوك في لحظة الإعلان عن التوقف عن السداد، حتى وإن تم ذلك بمسار منظّم متفق عليه مع الدائنين؟ واستطراداً، هل من خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، تستطيع تحييد ودائع الناس عن أن تمتد إليه يد “الهيركت”؟

4- ماذا ستفعل الحكومة بالنصائح “التقنية” التي سيقدمها “صندوق النقد الدولي”؟ نص النصائح موجود ومنشور في تقرير الفقرة الرابعة الصادر قبل أشهر قليلة. ومهما دخل عليها من تحديث، فإن جوهرها لا يمكن أن يخلو من عناوين أساسية مثل إصلاح سعر الصرف، والقضاء على السوق الموازية، وزيادة الضريبة على القيمة المضافة، والخصخصة. فهل ثمة إرادة سياسية للسير في هذه العناوين، لأخذ شهادة حسن السيرة والسلوك من الصندوق؟ أم أن ما كان يمنع السير بها ماضياً ما زال يمنع السير بها حاضراً؟

لعل العقدة الأهم في السؤال الأخير هي سعر صرف الليرة. فتثبيت الدولار على سعر 1515 بات من الماضي، ومن المستحيل العودة إليه. لكن مصرف لبنان يشتري الوقت برفضه الإقرار بوقائع السوق، ويصر على الإبقاء على نظام سعري الصرف، بفجوة بينهما تصل إلى 66 في المئة! وتلك فجوة لا يمكن لها أن تستمر طويلا، لأنها تشلّ حركة التجارة الخارجية شللاً تاماً، وتتسبّب باختلالات لا حصر لها في تعامل البنوك مع عملائها.

مخطئ من يعتقد أن الدولة التي تقرر التعثر لا تعرّض نفسها للدخول في مسار متأزم لعقود تالية

في مؤتمر سيدر قبل عامين، لجأت الحكومة اللبنانية إلى عشرات الجهات المانحة، من دول وبنوك تنموية ومؤسسات دولية، لكنها تحاشت طلب الأموال من صندوق النقد الدولي، لأنها تعرف شكل الإصلاحات التي سيطلبها منها. الأنكى أن الحكومة ذهبت في اتجاه معاكس تماماً، إذ شهدت السنوات الثلاث الماضية انفلاشاً في الإنفاق عديم المسؤولية، سواء من خلال التوسع في التوظيف، أو في زيادات الرواتب، أو في الإنفاق شبه الانتخابي على مشاريع مشكوك بجداوها الاقتصادية، فقفز العجز ووقع الهيكل.

لا يحتاج الأمر إلى كثير بحث ولجانٍ. الخيار الأسلم هو الخيار المتأخر منذ زمن “سيدر” وما قبله: الدخول في برنامج كامل الأوصاف مع صندوق النقد الدولي، مع كل ما يحمله من تبعات وألم. فذاك هو السبيل الأسرع للعودة المحترمة إلى أسواق الدين، وإلى استعادة الثقة بالنظام بالمالي.

ومن مندرجات ذلك اتخاذ قرار جريء ومكلف بتحرير سعر الصرف، ولو على مراحل، وتنظيم القيود على حركة رؤوس الاموال، حتى ولو أودت بمصارف كبيرة. بغير ذلك لن تستقيم حركة التجارة الخارجية، ولن تكون إعادة هيكلة الدين آخر المطاف.

قبل أسابيع قليلة، تعثرت الأرجنتين للمرة الثالثة في عقدين، وكانت عملتها الأسوأ أداء العام الماضي، وتجاوزت معدلات الفائدة لديها 45 في المئة. قبل ذلك، خبرت المكسيك ودول كثيرة في أميركا اللاتينية تجربة إعادة هيكلة الديون أواخر الثمانينات، عبر ما عُرف حينها بـ “خطة برادي”، المنسوبة إلى وزير الخزانة الأميركي حينها نيكولاس برادي. خلال عقد من الزمان عادت كلها تقريباً إلى التعثر.

مخطئ من يعتقد أن الدولة التي تقرر التعثر لا تعرّض نفسها للدخول في مسار متأزم لعقود تالية. لتفادي ذلك، لا بد للتشاطر اللبناني أن يتوقف. هناك ثمن لا بد من دفعه لتتوقف الخسائر.

لا إصلاح ناعماً بعد اليوم.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…