لم يخرق خطاب الرئيس سعد الحريري رتابة الاحتفالات في ذكرى اغتيال والده في 14 شباط. ربما موقع الحفل كان المتغيّر الوحيد، بعد نقله من مجمّع البيال إلى “بيت الوسط”، وقيل أنها لضرورات “أمنية”. لكن يبدو أن تقديرات المنظمين قد أصابت، بعد مواجهات سُجّلت “فوق راس الميت” بين مناصري “المستقبل” وثوار اعترضوا مواكب السياسيين الذين قصدوا الضريح لقراءة الفاتحة، في مشهد يشبه إلى حد بعيد معارك حماية المراقد المقدسة.
الخطاب افتقد نقاطاً وعدنا فريق الحريري الإعلامي قبل أيام، بأنه سوف يضعها على حروف “خطاب مفصليّ” ومؤسس لما أسموه خارطة طريق التيار الأزرق بعد ثورة 17 تشرين الأول 2019.
الوعود بقلب الطاولة وتسمية الأمور بأسمائها جاءت باهتة، ولم تأتِ بأي جديد، الفيديوهات التي وُزعت على مواقع التواصل الاجتماعي وهدّدت بكشف أسباب الهدر في ملف الكهرباء ومزاريب الدين العام، لم تختلف عما يقال كل يوم في الساحات.
هذه الوعود الفارغة تُرجمت إفتراضياً على موقع “تويتر” مساءً، حيث احتلّ هاشتاغ “سعد_الحريري_كذاب” بعد الخطاب بساعات، المركز الأول بنحو 26 ألف تغريدة.
[PHOTO]
التقرير المصوّر الذي عُرض قبل الكلمة ليردّ التُهم عن “الحريرية السياسية” ويُوجّه أصابع الاتهام بافتعال الأزمة الاقتصادية في البلد إلى “التيار الوطني الحر”، لم يرتقِ إلى حجم القطيعة بين الطرفين. لكنّ المستهجن في الخطاب خُلوّه من أي حديث عن المتهمين بالجريمة التي أسّست للذكرى.
في ثناياه، اعترف الخطاب بهزيمة التيار الأزرق بمواجهة “رئيس الظل” الوزير جبران باسيل، فقلّب المواجع على “القوات اللبنانية” و”الحزب التقدمي الاشتراكي”، من خلال تذكيرهما بمحاولة اقصائهما من الحكومة وإخلال باسيل بـ”اتفاق معراب”. ردّ باسيل لم يتأخر كثيراً. أطلّ بتغريدة ساخرة تحمل توقيعه وتعد الحريري بطريق عودة “أطول وأصعب”.
شو ما انت عملت وقلت ما رح تقدر تطالني، وكيف ما انا كنت ما رح اقبل كون متلك… بتفرّقنا بعض القيم والمبادئ، بس رح يرجع يجمعنا التفاهم الوطني… رحت بعيد بس رح ترجع، الفرق انو طريق الرجعة رح تكون اطول واصعب عليك. GB
— Gebran Bassil (@Gebran_Bassil) February 14, 2020
برغم من محاولة الحريري الفصل بين الرئيس ميشال عون وصهره، إلا أن تنصُّله من التسوية الرئاسية من خلال تلاوة “فعل الندامة” لم يعفه من مسؤولية دفع فاتورة خياراته السياسية، وهذا يبدو عادلاً. فالمستمع أو المشاهد يكفيه أن يتذكّر جملة واحدة نطق بها الحريري في منطقة راسنحاش قبل نحو سنة عشية الانتخابات النيابية، حتى ينسى كل ما سمعه في الخطاب: صوتوا لصديقي جبران!
وعلى قاعدة “المصائب تجمع”، أرسل الحريري إشارات غَزَل للحزب الاشتراكي والقوات بواسطة ممثليهما تيمور جنبلاط ومي شدياق، بعد أن غاب زعيماهما عن الذكرى، فيما حضر ممثل عن “المردة”. ربما الغَزَل كان محاولة لإعادة إحياء تجمّع “14 آذار” الذي وافته المنية في ظروف مشابهة في العام 2011، حينما رمى وليد جنبلاط الطلاق بوجه التجمّع و”راح خطيفة” فجراً مع القمصان السود.
صحف ومواقع وشخصيات سياسية قالت أنّ ثمة رغبة سعودية بإعادة إحياء الذي مضى، لكن حتى اللحظة لا مؤشرات جدية إلى تجرّؤ المملكة على “تجريب المجرّب”. ولا حتى خطاب الحريري استطاع أن يغري السعودية بذلك. لا تكترث المملكة، إلى قطيعة مع “التيار الوطني الحر” بقدر تطلعها إلى إعادة عقارب الساعة إلى 3 تشرين الثاني 2017 لسماع خطاب مباشر ضد “حزب الله” الذي يبدو الحريري حريصاً على تجنب الحديث عنه اليوم.
لم يأتِ الحريري على ذكر “حزب الله” بكلمة اتهام. فربما أصبح الحزب فعلاً بنظر الحريري “أكثر المسهلين” أو أقلّ المعرقلين” بحسب توصيف وزير الداخلية السابقة ريا الحسن.
ما سمعناه اليوم لم يكن طلاقاً مع العهد بقدر ما كان عتباً على “المتهم” المغيّب. عتبٌ مبطّن موجّه صوب حارة حريك يكاد أن يقول: لماذا جبران وليس أنا؟