الحريري خسر كل شيء.. وربح حزب الله

مدة القراءة 9 د

 

15 عاماً بعد 14 شباط 2005، قليلة جداً الثوابت في مسار هذه الذكرى. هناك قاعة فسيحة عند واجهة بيروت البحرية كانت تحضن المحتفين بذكرى أكلت التحالفات الهجينة عليها وشَرِبت، وقصمت ظهرها التنازلات المتتالية. هناك وجوه “كليشيه” بمجرد النظر إليها تعود الذاكرة بكبسة زر إلى حفرة الموت الواسعة عند السان جورج. وعطلة رسمية كرّست الحداد الوطني السنوي باغتيال الشهيد رفيق الحريري. غير ذلك، كل شيء تغيّر: على رأس اللائحة سعد رفيق الحريري.

قد تكون كبرى المفارقات بعد 15 عامًا من ذكرى الاغتيال أن يخسر سعد الحريري تقريبأ كلّ شيء بعدما اكتسب خبرة في فن الإلقاء: يخسر الثروة، حلفاء بالجملة، مشروع 14 آذار، تهاوي إمبراطورية “سعودي أوجيه”، الراعي السعودي، شبكة علاقاته الدولية، تقهقر مرتبته على لائحة أغنياء العالم، مساعده “الذهبي” نادر الحريري، “صقوره”، حزبه الأزرق بعد خيباته المتتالية، منابره الإعلامية وفي الطليعة شاشة “المستقبل”، إعلاميين ساندوه على مدى سنوات، رجالاته وأزلامه في بعض الإدارات… يخسر الرئاسة الثالثة وممثّليه في الحكومة، لكنّه يخرج بعد مسلسل النكسات بعلاقة ندية يسودها التفاهم المتبادل والثبات في المواقف مع “حزب الله”.

سيكون صعباً على نجل الشهيد تقبّل واقع مراكمة خسائر بالجملة ليربح حزب الله. الرئيس نبيه برّي تحصيل حاصل. خطاب 14 شباط في “البيال” بنسخة 2020 كفيل وحده بترسيم الحدود بين الحليف والخصم تحت سقف الإفلاس في خياراته السياسية، وفي اللحظة التي تحضّره لخوض معركة المعارضة الكبرى بوجه حلفائه السابقين من أركان التسوية الرئاسية. وفق تقاطع المعطيات لا معارضة بوجه حزب الله، بل بوجه ما تبقّى من العهد. إنّه خيار المرحلة للحريري، يجزم كثيرون.

من لا يذكر يوم وقف نجل رفيق الحريري على منصة “خطباء الثورة” في آذار 2011 واعداً، بعد show نزع “الجاكيت”، بنزع سلاح “حزب الله”، مؤكّداً أنّ المهمة ليست مستحيلة

في الذكرى الثالثة عشرة لاغتيال رفيق الحريري تبلورت النسخة المطوّرة من “الحريري الجديد”. هي معادلة ما قبل وما بعد محنة الاعتقال في الرياض. أذعن الرجل لقانون انتخاب وَضَع رأسه النيابي تحت المقصلة. على أبواب الانتخابات النيابية، وفي وقت كان أمثال نهاد المشنوق يحذّرون من تمدّد المشروع الفارسي في معرض شدّ العصب، كان سعد الحريري يُفضّل اللعب على موجة مغايرة تماماً. صارح جمهوره بفقدانه المال من دون أن يجيّشهم طائفياً وحزبياً بهدف التعويض عن الدولارات. أقصى ما ذهب إليه اعترافه باستحالة التحالف مع حزب الله لا أكثر من ذلك.

وما كان “المستقبليون” والقريبون من الحريري يعتبرونه إطباقاً لحزب الله على الحكم وسطوة إيرانية في الداخل، كان الحريري الجديد، الذي تحرّر تدريجاً من خطاب التعبئة ضد الحزب، ومن تداعيات 7 أيار، ومن نتائج توّغل حزب الله في حروب المنطقة من سوريا إلى اليمن وتداعيات التسوية الرئاسية مع الحليف المسيحي للسيد نصرالله، كان يرى الأمور من منظار آخر تماماً، أبعَدَ ما تبقى من مريديه من بيت الوسط.

العلاقة التراكمية مع حزب الله، من موقع العداء أولاً مروراً بمرحلة الاستيعاب حتى المهادنة الكاملة، أنتجت “حريري” آخر صار ينتظر اتصالاً أو زيارة من مساعد أمين عام حزب الله الحاج حسين خليل ليطّلع على آخر “كشوفات” مصيره الحكومي: يكلّف من جديد أو تتمّ إزاحته من السراي الحكومي.

لهذه النهاية، غير المُرضية بالنسبة للحريريين، أسبابها وخلفياتها. قبل أن يخسر معركة سحب السلاح، ويذعن له لاحقاً تحت عنوان ربط النزاع للحفاظ على الاستقرار. لم يوّفق الحريري بمعركة إزاحة بشار الأسد.

من لا يذكر يوم وقف نجل رفيق الحريري على منصة “خطباء الثورة” في آذار 2011  واعداً، بعد show نزع “الجاكيت”، بنزع سلاح “حزب الله”، مؤكّداً أنّ المهمة ليست مستحيلة. يومها كانت حكومة نجيب ميقاتي “خائن الأمانة وطاعن الحريريين في الظهر”، كما وُصفَت آنذاك، تعبّئ فراغ الغياب الحريري عن السلطة بعد إسقاط حكومته من الرابية.

بعد أشهر قليلة وجد نفسه في قلب العاصمة السعودية رافعاً لواء قضية أكبر منه “إسقاط النظام السوري”. بسنوات الخبرة داخل السراي الحكومي وخارجها، رئيساً للحكومة أو منفياً أو محتجزاً أو محتضناً بالداخل، أيقن الحريري تدريجاً أنّ شطب السلاح من المعادلة وإسقاط “نظام الشقيقة” ليسا بسهولة نزع السترة في لحظة انفعال مدروس.

برأي الحريري شخصان اتّخذا القرار بإطاحته من السلطة في كانون الثاني 2011: حسن نصرالله وبشار الأسد. نجيب ميقاتي كان أداة لا أكثر. بعد تسع سنوات من هذه المحنة، وما سبقها من تنازل حريري قاسٍ بزيارة قصر المهاجرين، وسقوط التسوية السورية السعودية، والمنفى الطوعي للشيخ سعد، المتهم الأوّل بإزاحته من السراي اليوم هو ميشال عون و”الفرقة”… باستثناء حزب الله.

ستعود الذاكرة في هذا السياق إلى جولات الحوار مع حزب الله. في أرشيف هذه المحطات “المهادنة” ما أسّس ربما لبقاء “الشيخ سعد” بمنأى عن المواجهة الكبرى مع الضاحية. يومها ذهب الحزب و”تيار المستقبل”، منذ بدء الأزمة في سوريا، بعيداً في تنسيق مكتوم الصوت وعلى القطعة، أبعَدَ كأس انفجار الاحتقان المذهبي، بالتوازي مع قرار إقليمي بتحييد الساحة الداخلية عن براكين المنطقة. في كلّ مراحل التنسيق، السرّي ثم العلني بمعيّة عين التينة، ثمّة في “التيار الازرق” من كان يحرّم الحوار قبل تسليم السلاح، ومن يعتقد أنّ الحريري قد يرتكب الخطأ نفسه الذي أقدم عليه حين سلّم بخيار مصافحة الرئيس بشار الأسد، وطيّ صفحة العداء معه.

وباعتراف الرئيس الحريري نفسه، لم يكن ما أقدم عليه “تيار المستقبل” ليزيد من رصيد شعبيته في زواريب طريق الجديدة وأزقة طرابلس وعكار. ولم يطل الأمر كثيراً حتى صدرت بعض المواقف داخل “التيار” التي أكّدت، بلغة الإحصاءات، أنّ بعض الأصوات التي خسرها “المستقبل” بسبب حواره مع الحزب قد جيّرت لمصلحة قوى 8 آذار. كانت وجهة نظر كثيرين من محيط الحريري منذ الـ2005 وحتى اليوم: لا نتيجة لحوار لا يؤمّن سوى الغطاء والمقبولية لـ”حزب الله”.

ومن أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في لاهاي بالتزامن مع بدء جلسات المرافعات الختامية في قضية اغتيال الشهيد رفيق الحريري ورفاقه في أيلول 2018، وفيما كان فريق الادّعاء يسرد الوقائع والأدلّة التي أشارت جميعها إلى تورّط 5 عناصر من “حزب الله” إضافةً إلى النظام السوري في جريمة 14 شباط، كان سعد الحريري يؤكد “وضع مشاعره جانباً وأنّه لا يسعى للثأر لوالده”، مركّزاً على معادلة “الاستقرار والأمن”.

بين المهادنة وربط النزاع لم يكن صعباً الاستنتاج أنّ أزمات الحريري كلما كبرت مع حليفه المسيحي ميشال عون والوزير جبران باسيل كانت دائرة الارتياح لنوايا الحزب تكبر

مسارٌ لم يحد عنه ابن الشهيد في جميع مراحل “تنسيق الضرورة” مع حزب الله. قالها أكثر من مرة: “البلد أهم من أي شيء آخر”. وبعد التسوية الرئاسية لم يتردّد في الدفاع عن حضور الحزب ضمن الحكومتين اللتين ترأسهما بعدما قدّم الأسباب الموجبة لهذا الخيار: الاستقرار الداخلي يتطلّب وضع الخلافات مع الحزب جانباً. أما سلاح الحزب فعلاجه إقليمي – دولي.

كبرى المفارقات تجلّت في ذكرى 14 شباط 2018. يحيي الحريري الذكرى تقريباً وحيداً من دون حلفائه. الافتراق الجدّي دشّن مع الحلفاء مذ قرّر الذهاب جدّياً إلى انتخابات رئاسة الجمهورية في تشرين الثاني 2015 بورقة سليمان فرنجية. وكرّت سبحة محطات التباعد وصولًا إلى تبنّي خيار ميشال عون رئيساً للجمهورية بتصفيق حادّ من “الخصم” التقليدي حزب الله. هو الحريري الذي سبق له أن انتقد جعجع في 14 شباط 2016 وجهاً لوجه وهو جالس قبالته في الاحتفال لترشيحه عون، حليف حزب الله، للرئاسة. هو الحريري نفسه أيضاً الذي دخل مع جعجع يدأ بيد في ذكرى 14 شباط 2017 مع مؤثرات صوتية واكبها النقل المباشر. من ضمن الرسائل يومها لهذا “الإخراج” الثنائي الردّ على مواقف كان أطلقها ميشال عون دعماً للمقاومة وسلاحها.

وبين المهادنة وربط النزاع لم يكن صعباً الاستنتاج أنّ أزمات الحريري كلما كبرت مع حليفه المسيحي ميشال عون والوزير جبران باسيل كانت دائرة الارتياح لنيّات الحزب تكبر. انتهى الأمر بمشهد سوريالي سبق استقالة الحريري. خصومة شرسة مع باسيل وسمير جعجع وتوتّر مع وليد جنبلاط في مقابل تناغم مع “حزب الله” وتقدير لدوره في التمسّك بالحريري رئيساً للحكومة مع ثناء على دور الرئيس نبيه برّي.

لا يستوي هذا المشهد سوى برصد ما كان يجري داخل بيت الوسط، حيث لم يعد حضور الحاج حسين خليل في منزل الحريري أمراً خارجاً عن المألوف السياسي، فممثّل السيد نصرالله صاراً ضيفاً مرحّباً به في ظلّ الأزمات حتّى خلال مرحلة المداولات في قانون الانتخاب مروراً بأزمة تمثيل “اللقاء التشاوري” في الحكومة السابقة، وصولًا إلى المدّ والجزر في سياق التفاوض حول هوية رئيس الحكومة الثالث في عهد ميشال عون.

يعترف نواب داخل “تيار المستقبل”: “نحن نسلّم بأنّ الحزب تعاطى مع الحريري بشفافية كبيرة وتمسّك به حتى اللحظة الأخيرة، تماماً كما الرئيس برّي”. يضيف هؤلاء: “من جهة الحريري، وقبل اندلاع انتفاضة 17 تشرين، رغب فعلاً في مدّ جسور التعاون مع الحزب في ما يتعلّق بالعديد من ملفات الفساد خصوصاً بعد إعلان السيد نصرالله الصريح بذهابه بعيداً في طرح هذه الملفات ومعالجتها”.

يستذكر هؤلاء مقاربة الحريري بكثير من الإيجابية لموقف السيد نصرالله من مؤتمر “سيدر” باعتباره أنّه الحافز الذي قد يدفع اللبنانيين إلى إيجاد حلّ للأزمة “غصباً عنهم”. لكن ماذا عن مصير العلاقة بعد خروج الحريري من السراي الحكومي؟ لسان حال “المستقلبيين” هذه الأيام عبارة: “ستسمعون لهجة مختلفة من سعد الحريري المعارض. هذا العهد أنهى نفسه بنفسه. ونحن نعتقد أنّ حزب الله يعلم ذلك جيداً”.

 

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري والمسيحيون… الفهم المتأخّر

  لكم هي شديدة الحاجة اليوم إلى رفيق الحريري لجمع أطراف الوطن! كان الرئيس الشهيد رابطاً بين لبنان ولبنان رُغم أنّ علاقته ما كانت سهلة…

طرابلس: كلن يعني كلن.. إلاّ “رفيق”

  تمتلك طرابلس ذاكرة تنبض بالحبّ والوفاء والحنين وبالثناء والتقدير لرفيق الحريري، قلّما امتلكتها مدينة أخرى، وعبـّرت عنها في مختلف المحطات، قبل الاستشهاد وبعده، بدون…

الثنائي في النبطية وقوّة الثورة

  فاطمة ترحيني تشهد محافظة النبطية مواجهة جديدة، أشبه بصراع دائم، بعدما استطاع جزء من أهل المدينة وقراها الاعتراض على “حزب الله” و”حركة أمل” وكل…

في وداع الحريرية؟

  هل سيستمر رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في السياسة أم لا؟ يصعب افتراض أن أحداً يملك إجابةً عن هذا السؤال، حتى عند الحريري نفسه،…