بعد خمسة عشر عاماً على اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، يبدو الانقلاب اللبناني ببعده الإقليمي وكأنّه بات مكتمل الحلقات. اكتمل الانقلاب، الذي بدأ في الرابع عشر من شباط 2005، بتشكيل حكومة لبنانية برئاسة حسّان دياب. اكتمل الانقلاب الذي لا يقدّم بديلاً قابلاً للحياة من مشروع رفيق الحريري. اكتمل الانقلاب فيما مصير لبنان في مهبّ الريح.
لا هدف من الحكومة الحالية في لبنان سوى تكريس واقع جديد هو عملياً الواقع القديم الذي سبق مرحلة التخلّص من رفيق الحريري. هل عاد لبنان إلى ما كان عليه قبل الرابع عشر من شباط – فبراير 2005، وما قبل تظاهرة الرابع عشر من آذار من تلك السنة التي أخرجت النظام السوري من لبنان؟
يكمن الفارق الأساسي بين شباط 2005 وشباط 2020، في أنّ الوصاية الإيرانية حلّت مكان الوصاية السورية – الإيرانية. كان لا بدّ من مرور كل هذه السنوات لفهم لماذا حرص حسن نصرالله الأمين العام لـ”حزب الله” على تنظيم تظاهرة “شكراً سوريا” في الثامن آذار 2005، التي كان هدفها الظاهر تغطية جريمة تفجير موكب رفيق الحريري وإبقاء الوضع اللبناني على حاله. هل كان حسن نصرالله يريد بالفعل شكر سوريا على ما قدمتّه، من وجهة نظره، من “هدايا مسمومة” إلى لبنان تحت شعاري “المقاومة” و”الممانعة”؟ أم كان يريد شكر النظام السوري على تغطية الجريمة التي مكّنت إيران من ملء الفراغ الأمني الذي خلّفه انسحاب القوات العسكرية السورية من الأراضي اللبنانية؟
لم تكن الجرائم التي ارتكبت ولا الأحداث التي اُفتعلت في لبنان سوى مقدمة لتغطية جريمة كان الهدف الأساسي منها القضاء على البلد وعلى المشروع الوحيد الكفيل بإعادة الحياة إليه
يتكشّف الآن أكثر فأكثر لماذا اغتيل رفيق الحريري والإطار الذي تمّت ضمنه عملية تفجير موكبه خلال مرحلة صعود المشروع التوسّعي الإيراني الذي شهد انطلاقة جديدة في ضوء الاحتلال الأميركي للعراق في ربيع العام 2003. صار مطلوباً إيرانياً بعد 2003 التخلّص من رفيق الحريري لأنّه كان الشخصية اللبنانية الوحيدة القادرة على لعب دور يتجاوز لبنان. اغتيل رفيق الحريري خلال مرحلة لم يعد مجرّد زعيم للسنّة في لبنان، بل لأنّه صار شخصية وطنية لبنانية ذات امتدادات عربية وإقليمية ودولية.
ما يفسّر الجريمة هو سلسلة الأحداث والجرائم التي تلتها وصولاً إلى حكومة حسّان دياب التي تشهد ردّ اعتبار النظام السوري، ولكن عن طريق إيران التي أرادت إعطاء بشّار الأسد جائزة ترضية في لبنان.
لم تكن الجرائم التي ارتكبت ولا الأحداث التي اُفتعلت في لبنان سوى مقدمة لتغطية جريمة كان الهدف الأساسي منها القضاء على البلد وعلى المشروع الوحيد الكفيل بإعادة الحياة إليه انطلاقاً من إعادة توحيد بيروت وتحويلها إلى إحدى أهمّ المدن على المتوسّط كمركز مالي وسياحي وطبّي وتربوي… وهذا ما حصل بالفعل، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار حرب صيف العام 2006 التي افتعلها “حزب الله”. كانت تلك الحرب، التي تلت التخلّص من رموز لبنانية مثل سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني، في مرحلة أولى، تستهدف خلق واقع جديد تأمّن في 2020 ومهّد له انتخاب العماد ميشال عون، مرشّح “حزب الله” رئيسا للجمهورية في الواحد والثلاثين من تشرين الأوّل 2016.
يدفع لبنان حالياً ثمن حرب صيف 2006، وثمن حروب أخرى على لبنان واغتيالات كان آخرها التخلّص من محمّد شطح ووسام الحسن وبيار أمين الجميّل وأنطوان غانم ووليد عيدو، أي ثمن انتصار “حزب الله” على لبنان وليس على إسرائيل بعدما حقّق مبتغاه من اغتيال رفيق الحريري. فقبل صدور حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، لم يعد سرّاً من نفّذ الجريمة.
مطلوب أن يعود لبنان أرضاً طاردة لأهلها. هذا ما نشهده اليوم وهذا ما تحقّق بفضل “العهد القويّ” الذي هو في الواقع “عهد حزب الله”. ما نشهده هو عزلة لبنان عن محيطه العربي وقطع العلاقات التاريخية التي ربطته بأوروبا والولايات المتّحدة.
هذه العزلة اللبنانية ليست وليدة اليوم، بل هي نتيجة عمل دؤوب يحرّكه حقد لا حدود له على رفيق الحريري وعلى لبنان، وطموح إيراني إلى جعل بيروت ضاحية من الضواحي الفقيرة لطهران. لم يكن النظام الأقلّوي السوري بعيداً عن هذا التوجّه الذي جعله يدفع منذ العام 2011 ثمن سياسة لم تدرك انّ خراب بيروت خراب لدمشق وأنّ ازدهار بيروت هو أيضاً ازدهار لدمشق ولكل مدينة سورية. بتغطيته جريمة اغتيال رفيق الحريري، قضى على نفسه أيضاً. رهانه على المشروع الإيراني، الذي لا أفق سياسياً له، قضى على سوريا أيضاً…
لم يكن اغتيال رفيق الحريري “رذالة” كما قال إميل لحّود في حينه. كان حدثاً أكبر بكثير من لبنان. كان أحد ترددات الزلزال العراقي الذي وقع في العام 2003 عندما سلّمت أميركا العراق إلى إيران على صحن من فضّة.
فمتى يهدأ الزلزال العراقي؟
الجواب أنّ ذلك ليس معروفاً، لكنّ الأكيد أن لا عودة إلى لبنان ما قبل اغتيال رفيق الحريري الذي قام بالمحاولة الوحيدة منذ العام 1975 لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لقد غيّرت إيران المنطقة كلّها بما في ذلك لبنان. كان اغتيال رفيق الحريري خطوة حاسمة في هذا الاتّجاه.