سقوط العقد الاجتماعيّ الإسرائيليّ

مدة القراءة 5 د

عانى اليهود في المجتمعات الغربية من الاضطهاد الديني. كانت فرنسا تمنع دخول اليهود إليها، وكذلك بريطانيا.

 

كانت هجرة يهود روسيا إلى أميركا هرباً من الاضطهاد. حاول اليهود الانكماش على الذات لتجنّب الاحتكاك بالمجتمعات الأخرى الرافضة لهم، فكانت ثقافة “الغيتو”، أي الأحياء المغلقة على اليهود دون سواهم. كانت فترات التعايش مع الآخر (المسيحي) قصيرة واستثنائية. اليهود في نظر الكنيسة مسؤولون عن جريمة صلب السيّد المسيح. وهم لا يعترفون حتى الآن بالمسيح المخلّص، ولا يزالون ينتظرونه ويؤمنون بأنّ من جرى صلبه لم يكن المسيح. تغيّر موقف الكنيسة (المجمع الفاتيكاني الثاني) ولم يتغيّر الموقف اليهودي. كانت الجريمة النازية المتمثّلة في المحرقة قمّة التعبير عن الكراهية، وكان التهجير إلى فلسطين وتحويلها إلى دولة يهودية قمّة التعبير عن الندم والتعويض.

الأمن الجماعيّ لليهود

قامت إسرائيل على تعاقد اجتماعي يقول بمجتمع يوفّر لليهوديّ الأمن الذاتي والجماعي والكرامة التي كان يفتقدها في المجتمعات الأخرى. من أجل ذلك أعلنت إسرائيل نفسها دولةً دينية يهودية. غير أنّ الذي حدث في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وجّه طعنة شديدة إلى سلامة هذا الاعتقاد. ففي يوم واحد وعملية واحدة، وبأسلوب بدائي، استطاعت حركة حماس أن تقتحم الحدود وتقتل أكثر من ألف يهوديّ وتأسر المئات منهم.

لم تكن هذه العملية خطيرة بعدد ضحاياها، لكنّها كانت خطيرة جدّاً بمعناها المعنوي والسياسي. إنّ الهدف من إقامة إسرائيل لتكون دولة يهودية لم يتحقّق على الأقلّ من حيث توفير الأمن والسلام للإنسان اليهودي. زاد الطين بلّة اضطرار إسرائيل إلى تهجير سكّان المستعمرات الشمالية المتاخمة للحدود اللبنانية إلى العمق الداخلي. صحيح أنّ التهجير القسري وفّر لهم السلامة، إلّا أنّه أكّد أنّ الأمن الذي كانوا يتمتّعون به هو أمن مؤقّت ووهمي، لا يحميه التفوّق العسكري ولا يصونه الدعم الدولي.

قامت إسرائيل على تعاقد اجتماعي يقول بمجتمع يوفّر لليهوديّ الأمن الذاتي والجماعي والكرامة التي كان يفتقدها في المجتمعات الأخرى

من هنا مهما تكن نتائج الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان من حيث عدد الضحايا وحجم الخراب والدمار، فنتائج هذه الحرب على إسرائيل وفق مبدأ وجودها والغاية من هذا الوجود ترسم علامة استفهام كبيرة حول علاقة الإنسان اليهودي بإسرائيل.

العقد الاجتماعي الذي قامت على أساسه سقط عمليّاً، وهو العمود الفقري للدولة.

اليهود

من أجل ذلك يحاول رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع حلفائه من حركات التطرّف الديني تغطية هذه النتائج المبدئية بالتركيز على نتائج متغيّرة تتعلّق بمكاسب وهمية من شروط وقف النار في كلّ من غزّة ولبنان.

عندما خسرت إسرائيل نفسها

قامت اسرائيل على “عقد اجتماعي” يضمن للإنسان اليهودي ما افتقده في المجتمعات الغربية من الكرامة والأمن والحرّية الدينية، لكن أثبتت الوقائع أنّ ما حدث هو العكس من ذلك. أدّى إصرار إسرائيل على رفض الاعتراف بحقّ الفلسطيني في دولة وطنية، ولو على جزء من أرض فلسطين، ثمّ تحويل إسرائيل إلى دولة دينية يهودية عنصرية تتعامل مع أهل البلاد الأصليين من مسلمين ومسيحيين بفوقيّة واستعلاء واستتباع، إلى نسف جسور قيام أيّ صيغة ممكنة من صيغ التعايش المشترك.

كانت هجرة يهود روسيا إلى أميركا هرباً من الاضطهاد. حاول اليهود الانكماش على الذات لتجنّب الاحتكاك بالمجتمعات الأخرى الرافضة لهم

لقد خسرت إسرائيل نفسها عندما أعلنت أنّها “دولة دينية يهودية”. وخسرت عقدها الاجتماعي الداخلي عندما فشلت في حماية يهود الشريط الحدودي مع غزة والشريط الحدودي مع لبنان، وحتى في حماية سكّان المستوطنات التي زرعتها في الضفّة الغربية.

في الخلاصة، لا يعني التفوّق العسكري تفوّقاً أخلاقياً. النفوذ العسكري مؤقّت، وأمّا الدائم فهو التفوّق الأخلاقي والقيميّ. هرب يهود أوروبا من الاضطهاد العنصري ليجعلوا من ثقافة الاضطهاد التي عانوا منها ركيزة لهم واستراتيجية. رافقتهم لعنة ثقافة الغيتو ليجعلوا من إسرائيل غيتو يهوديّاً في الشرق الأوسط. إلا أنّ العقد الاجتماعي لهذا الغيتو تلقّى صفعة على الخدّ الأيمن في غزة .. فأدارت إسرائيل الخدّ الأيسر في جنوب لبنان.

إقرأ أيضاً: معايير أميركا: ملاك في أوكرانيا.. شيطان في غزّة

خسرت إسرائيل جسور التعاطف التي قامت مع العديد من شعوب العالم التي أدركت أنّ اضطهاد اليهود لأنّهم يهود كان خطأً، بل جريمة ضدّ الإنسانية. وخسرت جسور الانتماء التي قامت مع العديد من كبار المفكّرين والعلماء الإنسانيين اليهود داخل إسرائيل وخارجها الذين أعربوا عن خجلهم من الجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتُكبت في غزة.

إلّا أنّ أهمّ وأخطر ما خسرته إسرائيل هو سقوط العقد الاجتماعي الذي قامت على أساسه، وبنت عليه سياسة الهجرة إليها.. فكانت النتيجة الهجرة منها.

مواضيع ذات صلة

ولادة الجمهورية الثالثة: نهاية زمن السلاح… والطوائف

لم يجرؤ رئيس جمهورية، منذ اتفاق الطائف، وربّما منذ تأسيس لبنان، على التعهّد في خطاب القسم، بحصر السلاح بيد الدولة. كانت “المُقاومة” كلمة مُفتاحية في…

إسرائيل تدعو الشّرع للصّلاة في “الأقصى”؟

يختلف الإسرائيليون في تقويم الحكم الجديد في سوريا بقيادة أحمد الشرع (الجولاني سابقاً). إذ ينظر اليمين المتطرّف إلى هذه النخبة من “الإسلام السياسي” نظرة “الذئاب…

إشكاليّة لبنانيّة مزارع شبعا في قرارات مجلس الأمن(3/2)

تقع مزارع شبعا، بالنسبة للأمم المتحدة، ضمن الحدود السورية. وهي ليست لبنانية، ولذلك يعتبر الأمين العامّ للأمم المتحدة أنّ إسرائيل انسحبت في عام 2000 من…

خيار “الحزب” وإيران… الارتداد على الدّاخل اللّبنانيّ؟

يبدو من الأسهل إقناع “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانيّة بخسارة سوريا، أكثر من إقناعها بخسارة لبنان. هذا ما يكشفه الخطاب الأخير للأمين العامّ لـ”الحزب” نعيم قاسم الذي…