في مختلف شوارع بيروت، الضاحية، والجنوب تُرفع صور لرئيس مجلس النواب نبيه برّي بوصفه “حامل الأمانة”. إنّه الزمن الأكثر اتّساقاً بين ظرف نبيه برّي في هذه المرحلة وتلك الصفة. فهو يحمل أكثر من أمانة وأكثر من مفتاح، على الرغم من القيود الكثيرة التي يجدها من حوله.
عندما أُطلقت على برّي هذه الصفة، كان هدفها الإشارة إلى أمانة السيّد موسى الصدر، سيّد العيش المشترك والانضواء الوطني للطائفة الشيعية في لبنان الواحد الموحّد ضمن بنية الدولة الوطنية. الآن تُلقى على عاتق نبيه بري مسؤولية كبيرة، وهي إعادة الشيعة إلى كنف الدولة، وإعادة الدولة إلى نفسها، وذلك لا يمرّ فقط باتّفاق وقف إطلاق النار وتثبيته وتعزيز سلطة الجيش، بل بإعادة تشكيل السلطة.
يعرف نبيه برّي جيّداً دقّة المرحلة، حساسيّتها وخطورتها. لذا يقول لكلّ من يلتقيهم إنّ اللبنانيين لا يمتلكون ترف الوقت ولا ترف المناورة، وهذا ما يقوله لـ”الحزب” أيضاً في النقاشات الضيّقة والخاصّة مع قيادته. يبرز برّي كحضن كبير وأخ أكبر لكلّ مكوّنات الطائفة الشيعية، ولا سيما “الحزب”. فكلّ ما يريده هو توفير عودة السكّان إلى قراهم ومنازلهم، مع الالتزام بتطبيق الاتّفاق بلا أيّ مناورات.
على الرغم من كلّ الخروقات الإسرائيلية التي جرى تسجيلها، يبقى الاتّفاق أفضل من عدمه، لأنّ البديل عنه هو استمرار الحرب والتهجير. التهجير البشري والاجتماعي لا بدّ من مواجهته أيضاً بعودة طوعية إلى الدولة ومؤسّساتها، والمدخل إلى ذلك هو الجنوب وسلطة الجيش.
تلك السلطة يريد نبيه بري تسليمها كلّ المقتضيات في جنوب نهر الليطاني وفي شماله أيضاً. وبهذه المقاربة ينظر إلى كلّ الاستحقاقات المقبلة، مع عودة إلى التمسّك بالدستور، وهذه المرّة لا يلجأ إلى الدستور غبّ الطلب، ولا إلى تفسيره كما يحلو له، لأنّه يعلم أنّ ثمّة مرحلة طُويت لمصلحة الدخول في مرحلة جديدة لم يعد بالإمكان المناورة فيها داخلياً ولا إقليمياً ولا دولياً.
لبنان بأمسّ الحاجة إلى الاحتضان والتلاقي، لذلك لا يريد الإقدام على خطوة تكرّس انقساماً بين القوى الداخلية
لا تعديل لأجل شخص
لا يريد فتح الباب أمام تعديل الدستور لأجل شخص، وأيّ محاولة من هذا النوع ستستجرّ غيرها، والظرف لا يتيح الدخول في نقاشات حول تعديل الدستور. يعلن برّي التمسّك بالطائف، والتمسّك باتّفاق وقف النار الذي أُلقيت مهمّة تنفيذه على الجيش اللبناني.
يعلم برّي أنّ لبنان بأمسّ الحاجة إلى الاحتضان والتلاقي، لذلك لا يريد الإقدام على خطوة تكرّس انقساماً بين القوى الداخلية. فهو لا يريد لمرشّح أن يكسر الثنائي الشيعي أو يعزّز منطق انتصار طرف على آخر، لكن أيضاً لا يريد فرض مرشّح يكرّس انكسار الطرف المعارض للثنائي.
هنا يعود برّي إلى الأمانة التي يحملها، وهي أمانة التوافق، الحرص على الوحدة الوطنية، والانتقال إلى أداء جديد ومختلف كلّياً في المسارات السياسية، وفي كيفية إعادة تكوين السلطة، بما يتلاقى عليه الداخل والخارج، لأنّ المطلوب هو استعادة الداخل والخارج. أثبت برّي أنّه شخص يعرف كيف يتنقّل في حقول الألغام.
ظنّ كثيرون أنّ برّي يسعى وراء المكاسب وتحسين الشروط، لكنّ العارفين ينفون ذلك بشكل قطعي، ويشيرون إلى مسألة مبدئية لا تتعلّق بالحصص والمكاسب، بل بالآليّة التي يفترض أن يتمّ تكريسها في المرحلة المقبلة.
يعلم برّي حجم الضغط الدولي في سبيل إيصال قائد الجيش، ويعرف أنّ هناك كتلاً عديدة تسعى إلى التصويت لقائد الجيش
يعلم برّي حجم الضغط الدولي في سبيل إيصال قائد الجيش، ويعرف أنّ هناك كتلاً عديدة تسعى إلى التصويت لقائد الجيش، لتوفير له 65 صوتاً، وعلى الرغم من أنّ هذا الرقم لا يخوّله الوصول إلى الرئاسة لأنّه يحتاج إلى 86 صوتاً. وهنا سيتفاعل سجال دستوري بضرورة إحالة هذه المسألة إلى المجلس الدستوري لبتّ الأمر، علماً أنّ مفتاح إعلان الرئيس هو في يد برّي. يبقى المفتاح في يد برّي المسكون بهموم كثيرة، أبرزها:
– الحفاظ على السلم الأهليّ.
– السعي إلى إعادة الإعمار وتوفير ظروف عودة المهجّرين.
– انتخاب رئيس يحظى بثقة المجتمع الدولي والقوى الداخلية.
– إطلاق ورشة إعادة تشكيل السلطة انطلاقاً من تشكيل حكومة جديدة.
إقرأ أيضاً: بري “شمعون الشيعة”: 40 عاماً نبيهاً!
تجتمع هذه المقوّمات كلّها بين يدي برّي، علماً أنّ المفتاح في يده، وكلمة السرّ في سرّه وبين عقله وقلبه، لربيب رفيق تاريخ قديم قال له ذات مرّة: “تكلّمني وتدمع عيني، فستعيد في حضورك صورة، صوت، رمزية، وجامعة جان عبيد”.