عاد ملفّ الموقوفين الإسلاميين إلى الواجهة من جديد، على وقع التحرّكات الشعبية المطالبة بإقرار (العفو العام) عفو عامّ لحلّ هذا الملفّ، الذي طالت مأساته على مدى أكثر من 13 سنة. وذلك لأنّ المعادلة التي أدّت لاعتقال معظم هؤلاء قد سقطت بعدما أصبح ثوّار سوريا وبعض الفصائل المعارضة، التي كانت متّهمة بالإرهاب، هم قادة سوريا الشرعيين بعد سقوط نظام الأسد. إذاً لا بدّ من مواكبة التغييرات السياسية والأمنيّة لخلق واقع إنساني جديد وفتح صفحة جديدة مع سوريا، ومن أبرز عناوين هذه الصفحة ملفّ الموقوفين الإسلاميين.
ماذا يقول المشرّع اللبناني عن هذا الملفّ؟ ما هي السيناريوهات المطروحة للحلّ؟ وما هو الأنسب بينها والأقرب إلى التطبيق؟ وما هو هامش الوقت التقريبي لاستواء الحلول ووضعها على سكّة التنفيذ؟
المعادلة سقطت
يؤكّد عضو “هيئة العلماء المسلمين” الشيخ نبيل رحيم أنّه للمرّة الأولى يلمس أنّ العمل جدّيّ لحلّ ملفّ الموقوفين الإسلاميين أكثر من أيّ وقت مضى. يقول: “إن كان عبر بعض الأطراف السياسية أو حتى الأمنيّة، نشعر أنّهم بدأوا يعترفون بأنّ ظلماً لحق هذا الملفّ، وكانت هناك شدّة في التعامل معه. ويعتبرون أنّ السبب هو الصراع الذي كان موجوداً في سوريا ولبنان، وأنّه كان هناك فريق رابح، وبالتالي كانت الأمور تمشي كما يريد هذا الفريق”.
يضيف في حديثه لـ”أساس”: “على سبيل المثال لا الحصر، لم تصنّف أيّ دولة فصائل الجيش السوري الحرّ منظّمةً إرهابية إلّا إيران ونظام الأسد ولبنان بضغط من طرف معيّن. النيابة العامّة العسكرية والمحكمة العسكرية تبنّيتا النظرية الإيرانية – الأسدية بأنّ هؤلاء إرهابيون، وكانوا يُحكَمون بأحكام قاسية، ويُدّعى عليهم بالإرهاب بشكل مباشر لتواصلهم مع معارضين في سوريا. كما أنّ أيّ عنصر سوري منشقّ عن جيش الأسد كان يتمّ توقيفه في لبنان ويحاكم باعتباره مخالفاً للقانون، وأحياناً كان يُسلّم للنظام السوري لتعريضه للتعذيب والقتل والإعدام أو السجن الطويل. وكنّا نحذّر من هذا الموضوع، لكن ما كنّا نلقى آذاناً صاغية إلا قليلاً”.
حبيش: من المفترض أن يتمّ تقديم اقتراح القانون بعد جلسة 9 كانون الثاني، ومن بعدها إذا تمّ انتخاب رئيس ندخل في جوّ قانون العفو
يقول أيضاً: “لكن الآن، وبعدما رأت الناس أماكن صناعة المخدّرات وتصدير الحبوب والمكابس والمسالخ البشرية في السجون التي لا تميّز بين نساء وأطفال، اكتشفت من هو الإرهابي الحقيقي. فالملفّات كانت مسيّسة وتخضع لأحكام قاسية جداً. ونحن نطالب بفتح صفحة جديدة تعفو عن كلّ الناس التي لحق بها الظلم بغضّ النظر عن طائفتهم أو جنسيّتهم”.
لاقتراح يرضي الجميع
حول جدّية الحلول وتسريعها، يؤكّد رحيم أنّ هناك جلسات مع الأفرقاء لترتيب قانون، “وأخيراً حصل اجتماع بين كتلة “الاعتدال الوطني” وبعض أعضاء هيئة العلماء المسلمين بتكليف من رئيس الهيئة الشيخ سالم الرافعي، والجلسات مفتوحة لاقتراح قانون يرضي جميع الأطراف، ويُخرج الناس من السجون ويرفع الظلم عن المظلومين”.
يشير إلى أهمّية وعد رئيس “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع بالمطالبة بالموقوفين السوريين الذين تمّ توقيفهم في لبنان على خلفيّة تأييدهم الثورة السورية، ما إن تترتّب الأمور في سوريا، “واليوم حين يتمّ تسليم الموقوفين السوريين يفرط الملف لأنّ اعتقال الإسلاميين اللبنانيين جرى وفق المعادلة نفسها”.
حراك تشريعيّ
عن الحراك التشريعي من أجل العفو العامّ الذي يشكّل بارقة أمل لملفّ الموقوفين الإسلاميين، يؤكّد أمين سرّ تكتّل “الاعتدال الوطني” النائب السابق هادي حبيش لـ”أساس” أنّه “تمّ إعداد اقتراح قانون للعفو العامّ، والآن يتمّ التفاهم حوله مع التكتّلات النيابية التي ستصوّت عليه، قبل تقديمه، فتمّ إرسال الاقتراح لأكثر من تكتّل أساسي في انتظار ملاحظاتهم على الاقتراح وإجاباتهم، على أن يتمّ تقديمه في أسرع وقت ممكن”.
عن هامش الوقت المتوقّع يقول حبيش: “من المفترض أن يتمّ تقديم اقتراح القانون بعد جلسة 9 كانون الثاني المخصّصة لانتخاب رئيس، ومن بعدها إذا تمّ انتخاب رئيس ندخل في جوّ قانون عفو إن شاء الله“.
تتمّ اليوم دراسة اقتراحات القوانين، ومن بينها قانون العفو العامّ، لوضع الملاحظات عليها وتسليمها لمفتي الجمهورية
يؤكّد أنّ هناك جو قبول من حيث المبدأ باقتراح القانون، “لكنّ الشيطان يكمن في التفاصيل، وبالتأكيد سيكون هناك من يريد أن يضيف بعض التفاصيل أو إزالتها”، ويتخوّف من غير الاختصاصيين الذين يمكن أن تكون لديهم ملاحظات نتيجة فهم خاطئ للقانون.
في تفاصيل الاقتراح، يوضح حبيش أنّه “مبكّل، ومشغول بتأنٍّ، فلا عفو عامّاً على حقّ شخصي متعلّق بأيّ مواطن، ويطوي صفحة الماضي والأخطاء التي حصلت في الماضي بشكل يحاسب المرتكب ويجد حلّاً للمظلوم، وبالتأكيد يحاسب المرتكب انطلاقاً من الظروف التي حصلت فيها الجرائم. أمّا الحقوق الشخصية فمحفوظة. القاتل، قاتل عسكري أو مدني، أو مرتكب الجرائم الكبيرة لا يشملهما العفو، لكن يشملهم تخفيض الحكم للنصف تقريباً”.
خفض السّنة السّجنيّة
ردّاً على سؤال عن إمكانية تأثير خفض السنة السجنيّة إلى 6 أشهر لكلّ الجرائم بشكل يؤدّي إلى استسهال الجريمة، يشدّد حبيش على أنّ هذا الخفض يشمل الجرائم التي حصلت قبل تاريخ صدور العفو فقط، لا بعده.
يرى النائب السابق، وهو رئيس لجنة العفو العامّ سابقاً أيضاً، أنّ سقوط النظام السوري “دفش” الملفّ للواجهة، على الرغم من أنّ العمل عليه قائم منذ سنوات، “فهذا السقوط يساعد أكثر لأنّ بعض التكتّلات النيابية التي كان من الممكن أن ترفض العفو، قد تسير به اليوم بسبب تغيّر الظروف، التي تخلق مناخات معيّنة نضطرّ معها إلى وضع قوانين جديدة تماشياً معها. فمثلاً من كان يدعم جبهة النصرة كان يحاكم وفق موادّ قانون إرهاب 158، وأمّا اليوم فأصبحت جبهة النصرة هي السلطة الشرعية في سوريا، والناس تتقاتل للقاء أحمد الشرع، فما عاد من الممكن الاستمرار بتطبيق هذا النصّ”.
تعبّر المصري عن امتعاضها من عدم تنسيق العاملين على اقتراحات القوانين مع أهل الاختصاص الذين يعملون على ملفّ الإسلاميين منذ سنوات
عدالة انتقاليّة
يؤكّد المتخصّص في حقوق الإنسان المحامي محمد صبلوح على الأجواء الإيجابية نفسها، على اعتبار أنّ “هناك تحرّكات جدّية من قبل بعض النواب نلمسها لأوّل مرّة، بينما للأسف هناك آلاف السجناء يعانون إنسانياً بسبب تقصير الدولة بالغذاء والاستشفاء، إلا أنّ التغييرات التي حصلت في سوريا حرّكت هذا الملفّ من جديد، لأنّ الجميع يعرف أنّ هناك مظلومية في هذا الملفّ”.
يلفت إلى أنّ هناك تحرّكاً جدّياً لمناقشة عفو عام يستثني قتلة الجيش والاعتداء على أمن الدولة والمخدّرات، لكنّ هؤلاء يستفيدون من خفض العقوبات مع حفظ حقوق المدّعي الشخصي. ويشير إلى أنّ أعداد الموقوفين الإسلاميين قليل اليوم، لكنّ الظلم الذي طالهم كبير جداً، “هناك موقوفون لم يواجهوا أيّ قاضٍ منذ أكثر من عشر سنوات. أمّا عدد الإسلاميين في السجون اليوم فيقارب 350 موقوفاً، بينهم 170 سورياً و 180 لبنانياً وفلسطينياً. منهم من هم محكومين ومن هم قيد المحاكمة (أي موقوفين) وعدهم 185 شخصاً.
تغيّرت المعادلة في سوريا، فهل تسقط تهم الإرهاب بحقّ الموقوفين الإسلاميين قانونياً؟
يجيب المحامي صبلوح: “يجب أن تسقط، لا سيما أنّ كلّ الدول اعترفت بالقيادة السورية الجديدة، بما فيها أميركا، لأنّ جزءاً كبيراً من هؤلاء تمّ توقيفهم لأنّهم دعموا الثورة السورية، والتغييرات التي حصلت حرّكت الإنسانية المزيّفة التي نتمنّى أن تكون حركتها سريعة في الأيام المقبلة. كما أنّ هناك ضغطاً على الحكومة السورية من السجناء السوريين الموجودين في لبنان، بالإضافة إلى أنّ هناك ضغطاً من أهالي الموقوفين الذين دفع أبناؤهم فاتورة وقوفهم إلى جانب الثورة السورية”.
في ما يخصّ الموقوفين السوريين في لبنان المعارضين للنظام المخلوع، يرى صبلوح أنّ هناك ضرورة لإخلاء سبيل السوري غير المحكوم
ماذا عن الموقوفين السّوريّين؟
في ما يخصّ الموقوفين السوريين في لبنان المعارضين للنظام المخلوع، يرى صبلوح أنّ “هناك ضرورة لإخلاء سبيل السوري غير المحكوم وتسليمه للأمن العامّ اللبناني تمهيداً لتسليمه للسلطات السورية الجديدة. أمّا المحكومون منهم فدونهم إجراءات أكثر تعقيداً، لأنّ هناك 42 اتفاقية بين لبنان وسوريا، فهل تبقى سارية المفعول أم لا؟ وإن كانت سارية المفعول فهي بحاجة إلى تعديل لتسليمهم لأنّ هناك شروطاً خاصة في موضوع التسليم، كأن يكون السوري محكوماً وباقٍ لانتهاء مدّة عقوبته 6 أشهر”.
يضيف صبلوح أنّ “الملفّ كي يُحلّ يجب أن يستفيد منه الجميع، ونحن لا نطرحه من بوّابة هؤلاء الـ350 موقوفاً فقط، بل من باب الاكتظاظ في السجون، والواقع الإنساني المرير في السجون. وبالتالي آن الأوان ليقوم المشرّع اللبناني بحلٍّ لإحقاق عدالة انتقالية عرّفتها الأمم المتحدة بأنّها رفع الضرر عن الناس وتخفيف الاكتظاظ في السجون، في أيّ دولة تشهد ما شهده لبنان وسوريا، عسى أن نكون أمام إعادة ترميم هذه السجون لتكون متوائمة مع أبسط قواعد حقوق الإنسان ومع السبب الذي أنشئت لأجله، أي الإصلاح والتأهيل”.
أسهل الممكن
بدورها المحامية الدكتورة زينة المصري تؤكّد أنّ “العفو العام هو الحلّ الأنسب لحلّ ملفّ الموقوفين الإسلاميين، الذين عانوا على مدى أكثر من 13 عاماً، ولحق بهم ظلم كبير نتيجة دعمهم للثورة السورية، خصوصاً أنّ معظمهم قضى محكوميّته ظلماً وخرج، ومنهم كثيرون حوكموا بتهم تعكير الصلات بدولة شقيقة، وهناك موقوفون محكومون صدرت بحقّهم أحكام مبرمة لا تقبل أيّ مراجعة، ولذا كان عدد الموقوفين الإسلاميين 1,200 موقوف، واليوم يبلغ عددهم قرابة 350”.
عاد ملفّ الموقوفين الإسلاميين إلى الواجهة من جديد، على وقع التحرّكات الشعبية المطالبة بإقرار (العفو العام) عفو عامّ لحلّ هذا الملف
تشدّد المصري على أنّ “الدولة اللبنانية لم تفرز هذه الملفّات وتتعامل بمسؤولية مع الموضوع، لتصنّف من هو مرتكب ومن هو غير مرتكب. لا تريد الدولة أن تتعاون مع أهل الاختصاص لحلحلة الملفّات العالقة، وفي الوقت نفسه هناك تجاذبات سياسية. ولا يخفى على أحد أنّ مؤسّساتنا تسير وفق قاعدة الستّة وستّة مكرّر، فلا قانون عفو للإسلاميين من دون مقابل، ولذلك العفو العام هو الحلّ“.
تسريع المحاكمات
تضيف: “تسريع المحاكمات هو موضوع قديم طالبنا به كثيراً، لكن من دون جدوى، فهناك نقص في عدد القضاة العدليين ولدينا أحداث ومشاكل كثيرة أخّرت عمل القضاء لسنوات، ولذلك فلنذهب نحو العفو العام لأنّه الحلّ الأسهل على الدولة”.
تعبّر المصري عن امتعاضها من عدم تنسيق العاملين على اقتراحات القوانين مع أهل الاختصاص الذين يعملون على ملفّ الإسلاميين منذ سنوات، وتلفت إلى أنّه تتمّ اليوم دراسة اقتراحات القوانين، ومن بينها قانون العفو العامّ، لوضع الملاحظات عليها وتسليمها لمفتي الجمهورية “لأنّه بالنسبة لنا هو المرجعية والسقف والضمانة لإحقاق العدالة في هذا الملفّ، والمطلوب الالتفاف حوله والتعاون معه أكثر من أيّ وقت مضى”.
إقرأ أيضاً: الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة
إذاً سقط الأسد وسقطت معه معادلات كثيرة، ومن بينها الظلم الذي لحق ببعض الموقوفين الإسلاميين، فهل يكون لبنان مع بداية العام الجديد على موعد مع عدالة انتقالية قريبة تواكب التغييرات التاريخية التي تحصل في المنطقة؟!
لمتابعة الكاتب على X: