أخيراً، نال الفيلم اللبناني “أرض الوهم” لكارلوس شاهين حقّه في التكريم في بلده، حاصداً جائزة “موريكس دور” كأفضل فيلم لبناني، بعد نيله جائزة سعد الدين وهبة لأحسن فيلم عربي، خلال الدورة الـ44 لمهرجان القاهرة السينمائي.
أتى التقدير متأخّراً، بعد عامين من صدور الفيلم، وبعد عام على عرضه في الصالات اللبنانية، لكن أن يأتي متأخّراً ربّما أفضل من ألّا يأتي. الفيلم الذي يستحقّ فعلاً المشاهدة لبراعته في الإخراج الدافئ والمثير والعفوي المشبع بالعواطف والإحساس، يستحقّ أيضاً القراءة بين مشاهده، لنضجه ومعالجته الذكيّة لقضايا سياسية لبنانية عالقة منذ أحداث ثورة 1958 والمدّ الناصري و”حلف بغداد” واضمحلال النظام الإقطاعي لمصلحة التحرّر والحداثة.
تدور أحداث الفيلم (إنتاج فرنسي- لبناني) في قرية جميلة شمال لبنان، حيث الريف الأخضر الرومانسي والعائلات الراقية، في زمن البكوات والمشايخ في خمسينيات القرن الماضي، وتحديداً في 1958، وهي سمة مفصلية في عمر لبنان السياسي.
تدور أحداثه حول ليلى (مارلين نعمان)، وهي أمّ شابّة جميلة وزوجة مثالية، زوّجها أبوها (أحمد قعبور) النائب في البرلمان اللاهث الأبدي وراء السلطة والجاه، بالشيخ الثريّ (طلال الجردي) الذي يكبرها سنّاً كي يبقى الأب في الحكم.
لكنّ لليلى ابناً صغيراً (أنطوان مرعب طرب) يراقب الأحداث والمشاعر، يفهم وجع أمّه الفردي وطوقها للحرّية وللتخلّص من العنف المعنوي الذي تتعرّض له، لكنّه ينجرّ أحياناً نحو جموح أبيه إلى اللعب بالسياسة والتدريب على القتال. يبدأ الفيلم من نظرات ذاك الطفل الذي يرى ويفهم، من دون أن يفتح فمه. جلّ ما يفعله هو الاستمرار بحبّ أمّه وتخزين الغضب في لاوعيه.
نال الفيلم اللبناني “أرض الوهم” لكارلوس شاهين حقّه في التكريم في بلده، حاصداً جائزة “موريكس دور” كأفضل فيلم لبناني
من الكلاسيكيّة إلى التّحرّر
في الظاهر، الفيلم كلاسيكي يصوّر الحياة الهانئة في طبيعة خلّابة كالتي تخيّلها الرحابنة وزكي ناصيف وتخيّلناها مع فيروز وصباح، تزيّنه الديكورات الأرستقراطية للبيوت والأزياء المستوردة من باريس وقصّات الشعر والألوان الدافئة، وتزيد من سحره الموسيقى العاطفية الحالمة من خلال أغنيتيّ “ليالي الأنس في فيينا” لأسمهان و”حكاية حب” (Une histoire d’un amour) لداليدا المحوريّتين في الفيلم.
في المضمون، اختار شاهين المخرج وكاتب السيناريو بالتعاون مع الفرنسي تريستن بونوا، فترة زمنية لها دلالات سياسية، عشيّة انهيار الحلم وانحدار البلد نحو الحرب والانقسامات والاقتتال من جهة، والتحوّل نحو الحداثة والتحرّر من جهة أخرى. ففي عام 1958 كان لبنان في أوج عطاءاته وتطلّعاته، وذا حكم جمهوري مستقلّ حديثاً بعد استقلاله عن الحكم الفرنسي في 1943.
أداء تمثيليّ عفويّ دافئ
أعطت هذه الخلفيّة السياسية والتاريخية زخماً لبناء الشخصيات ورسم مساراتها وأدواتها. أمّا أداء الشخصيات فكان متوهّجاً وصادقاً لدرجة أنّنا نشعر أنّه مرسوم بطريقة عفويّة حقيقية، وكأنّ كلّ ممثّل كان يعيش هناك في زمن ليلى وعائلتها وفي قريتها، وليس ممثّلاً يحفظ دوره ويؤدّيه بشكل جيّد، بل يؤدّيه بشكل عفويّ.
نشعر مثلاً أنّ ربيع الزهر زلمة الشيخ يخبّئ سرّاً دفيناً منذ ظهوره الأوّل، ثمّ نكتشف أنّه مثليّ يخفي ميوله كي لا يسحله أهالي القرية. أمّا الحلقة الأقوى بين الممثّلين، التي شكّلت مفاجأة يوم عرضه للمرّة الأولى في فرنسا ثمّ في مهرجان القاهرة، فكانت مارلين نعمان لأنّها معروف عنها أنّها مغنيّة وليست ممثّلة محترفة. لكنّها قدّمت الشخصية بصدق لافت، وعرفت كيف تُبرز مشاعر ليلى المتناقضة بين الحزن والحبّ والثورة في داخلها.
صورة ليلى تقابلها صورة الأب التي رسمها كارلوس شاهين على قياس السياسة في لبنان
أدّت شخصية مركّبة وصعبة تجمع بين البراءة والجرأة والتمرّد على الزوج والعائلة والانجرار وراء الحبّ. واستطاعت أن تفوز بأقوى مشهد في الفيلم، وهو مشهد العلاقة الجنسية بين الزوجين، ليس لأنّه جنسي وجريء، بل لأنّها أعطته زخماً من المشاعر والعواطف المكثّفة والمتناقضة في لحظة واحدة. بدمعة واحدة اختصرت كلّ عذابات النساء المسلوبات حقّ اختيار الزوج والتعبير عن إحساسهنّ بحرّية، واللواتي يمضين عمرهنّ جافّاً من دون الشعور بالحبّ الحقيقي.
يحاكي مشهد قساوة العنف المعنوي المسكوت عنه في السينما العربية بشكل عامّ، وينمّ عن نضج في الكتابة لمثل هذه الشخصيات. وهو تحدٍّ صعب، فهو جنسيّ غير مبتذل وغير مثير، يوظّفه المخرج للدلالة على قهر ليلى بهذه العلاقة الزوجية المفروضة عليها من قبل أبيها لمصلحته السياسية. مشهد مكتوب بلغة المرأة ويُترجم إحساسها ويُجسّد شوائب المجتمع والتربية الصارمة، التي تحرمها أحياناً من اكتشاف حيوات أخرى في الضفّة الثانية من بيت أهلها.
الذّكوريّة الانتهازيّة
صورة ليلى تقابلها صورة الأب التي رسمها كارلوس شاهين على قياس السياسة في لبنان. رجل محبّ، أنيق، كلاسيكي في الظاهر، لكنّه نرجسي، خبيث في الداخل. فهو الغارق حتى النخاع في أوساخ السياسة والمفتون بالسلطة. يستغلّ كلّ ما حوله ومن حوله لأهدافه السياسية، حتى تعليم ابنتيه وتربيتهما وأناقتهما كانت هدفاً لدرّ المال وجلب السلطة عبر تزويجهما، واحدة بمغترب ثريّ والثانية بإقطاعي.
في عام 1958 كان لبنان في أوج عطاءاته وتطلّعاته، وذا حكم جمهوري مستقلّ حديثاً بعد استقلاله عن الحكم الفرنسي في 1943
يشبه الأب في “أرض الوهم” لبنان الخمسينيّات، فكان مهزوماً بعد ثورة 1958 والمدّ الناصري و”حلف بغداد” المدعوم من الولايات المتحدة، ويحاول لملمة العائلة التي بدأت تتحرّر من سلطته الذكورية. لكنّ الزمن الأوّل تحوّل، وانكشفت ألاعيب أصحاب السلطات الخاوية، البطريركية، التي هُزمت في جمعة حين يجرؤ أحد أبناؤها على مواجهة البيك بانحيازه لطبقة طائفية وإعطائها امتيازات على حساب تهميش طائفة أخرى.
إقرأ أيضاً: مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت
هذا الحوار مفتاح مهمّ على الحاضر الدمويّ، الذي نعيشه منذ عقود تسبق عمر النصّ والفيلم وولادة الشخصيّات. والفيلم يحاكي واقعنا اليوم عبر قصّة قديمة – جديدة، في فترة زمنية مفصليّة، قصّة وطن اكتشفنا أنّه وهم، وأغنية، وقصيدة، أكثر ممّا هو بلد، وقصّة أفراد لا يزالون يثورون ويتمرّدون في حروب صغيرة فرديّة تذوب في الحروب الكبيرة.
لمتابعة الكاتب على X: