يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت” في “يسوعيّة” بيروت ومصوّر الحرب فؤاد خوري، و”عاد مارون بغدادي إلى بيروت”… وكلّها تحيّات سينمائية للحظات من تاريخ لبنان الثقافي المُضيء.
“عُرفت السينما في الأوساط الشعبيّة الطرابلسيّة باسم “سيلَما”. وتبوّأت مكانةً مهمّة في حياة عاصمة الشمال في لبنان، امتدّت من الثلاثينيّات إلى نهاية القرن العشرين”. كما يشير المخرج اللبناني هادي زكّاك في كتابه الموسوعي “سيلَما طرابلس”. وتخطّى عدد صالات السينما الثلاثين، وانتشرت في جميع أنحاء المدينة من ساحة التلّ إلى البولفار والأحياء الداخليّة وباب التبّانة وصولاً إلى الميناء. دخلت الأسماء في نسيج المدينة: أمبير، روكسي، دنيا، أوبرا، الحمراء، ريفولي، بالاس، متروبول، الكابيتول، الكولورادو، وكذلك ليدو والشرق والقاهرة والأهرام والبيكاديلي، بالإضافة إلى العلَم وهوليوود وكليوباترا وراديو وسلوى ورابحة وفيكتوريا…
من خلال بحث استغرق سنوات طوالاً من العمل، يحاول زكاك عبر فيلمه إعادة تكوين سيرة “سيلَما” ومعابدها وطقوسها وقصص الحبّ والحروب في زمن معلّق. الفيلم يروي من خلال ألف صورة وأربعين صوتاً الذاكرة الجماعيّة لمدينة عربيّة أهملتها السياسة وأنصفتها الثقافة. أمّا المعرض فيقدّم 40 صورة فوتوغرافية التقطها زكاك لهذه الصالات القديمة أو ما بقي منها بين 2008 و2022، تكشف عن آثار من زمن غابر وعن تحوّلات اجتماعية واقتصادية وثقافية شهدتها طرابلس.
أسرار آثار مملكة بيبلوس
في خضمّ ما يمرّ به لبنان من انتهاكات واعتداءات على آثاره في تبنين وصور والنبطية وبعلبك وغيرها من المواقع المصنّفة على لائحة التراث العالمي لمنظّمة اليونيسكو، يعرض مهرجان BAFF فيلم “لبنان، أسرار مملكة بيبلوس” الوثائقي للمخرج اللبناني فيليب عرقتنجي في الافتتاح. والفيلم حصل قبل أيام على جائزة لجنة التحكيم الكبرى في الدورة الرابعة والعشرين لمهرجان السينما الأثرية (FICAB) في مدينة بيداسوا الإسبانية.
فيلم “لبنان، أسرار مملكة بيبلوس” الوثائقي للمخرج اللبناني فيليب عرقتنجي في الافتتاح
أوضحت الشركة المنتجة للوثائقي GEDEON Media Group عبر شبكات التواصل الاجتماعي أنّ هذا الفيلم صُوِّر في عامَي 2022 و2023، وتعرضه محطة “أرتيه” (ARTE) الفرنسية الألمانية، مطلع كانون الثاني 2025، وأنّه “يتتبّع خطوة بخطوة التنقيب في مقبرة في موقع جبيل الأثري بقيت محفوظة بشكل سليم منذ العصر البرونزي وتحتوي على موادّ أثرية مهمّة”.
قالت أليس مغبغب: “هذا الوثائقيّ شاهِدٌ على تاريخ لبنان المميّز وأهمّية إرثه، ويكتسب قيمة مضاعفة اليوم في وقت باتت فيه المواقع الأثرية اللبنانية عرضة لخطر القصف”.
قال عرقتنجي، الذي في رصيده نحو 70 فيلماً وثائقياً، إنّ الفيلم “بمنزلة تذكير قويّ للعالم بالقيمة الهائلة لهذا الإرث والحاجة الملحّة إلى الحفاظ عليه”.
اعتبر أنّ “القصف الذي طال أخيراً أكثر من 18 موقعاً أثريّاً في لبنان ليس مجرّد خسارة مادّية بل هو اعتداء على تاريخ وطن”.
المكتبة الشّرقيّة إن حكت
حصّة لبنان من الأفلام المعروضة في المهرجان هذا العام كبيرة، إضافة إلى عشرات الأفلام من 15 دولة. ومن أبرز الأفلام اللبنانية فيلم “المكتبة الشرقية إن حَكَت” للمخرج بهيج حجيج، في عرضه الأوّل. من خلال حوالي عشرين مداخلة لخبراء من الأوساط التراثية والأكاديمية والثقافية، يلقي هذا الفيلم الوثائقي نظرة على تاريخ وأهمّية مجموعات المكتبة الشرقية في جامعة القدّيس يوسف في بيروت، ويقدّم وجهات نظر مستقبلية بشأن استدامة تراثها.
يُعرض فيلم عن المصوّر الفوتوغرافي اللبناني الشهير فؤاد خوري يحمل اسمه، من إخراج كامي باكديل، ومن إنتاج فرنسي. “فؤاد خوري بعدسة فؤاد” هو فيلم وثائقي يتناول أعمال المصوّر اللبناني فؤاد خوري وحياته. وهو المولود في بيروت في عام 1952. يغوص الفيلم في مسار هذا الفنّان الذي أخذ دور موثّق الحرب والشاهد على النزاعات في الشرق الأوسط، انطلاقاً من أرشيف الفنّان الخاصّ، فاتحاً الباب للتأمّل في ما هو خاصّ وما هو عامّ. وبعيداً عن صور الحرب، يقدّم المصوّر نفسه، كاشفاً لنا عن بحثه عن المعنى وعلاقته بالذاكرة والوقت. إنّها اللوحة التي تسلّط الضوء على رغبةٍ عميقةٍ بتتبّع الجمال في أحلك زوايا التاريخ.
في خضمّ ما يمرّ به لبنان من انتهاكات واعتداءات على آثاره من المواقع المصنّفة على لائحة التراث العالمي لمنظّمة اليونيسكو، يعرض مهرجان BAFF
الختام مع عودة مارون بغدادي
أمّا الختام فسيكون في 6 كانون الأوّل مع “وعاد مارون إلى بيروت” للمخرجة فيروز سرحال. إذ يصادف عام 2023 الذكرى الثلاثين لوفاة مارون بغدادي، المخرج الذي يشكّل أحد رموز السينما اللبنانية. تنطلق المخرجة فيروز سرحال في فيلمها “وعاد مارون إلى بيروت” في رحلةٍ على مدار يومٍ كاملٍ في بيروت، تزور خلالها الأماكن التي شهدت على حياة مارون بغدادي وأعماله. خلال هذه الرحلة، تلتقي سرحال بالمقرّبين منه ومن عملوا معه لتجمع ذكرياتهم معه وتُجمّع صوراً من الأرشيف ومقتطفاتٍ من أفلامه.
لا يتوقّف الفيلم الوثائقي “وعاد مارون إلى بيروت” عند استرجاع مسيرة بغدادي المهنية، بل يرسم أيضاً صورةً عن لبنان، تأخذ فيها السينما دور المرآة التي تعكس الروايات التاريخية والشخصية والجماعية لهذا البلد.
إقرأ أيضاً: بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين
هكذا يقدّم المهرجان أفلاماً تكرّم تاريخ لبنان السينمائي والثقافي، في لحظة موت “الأمكنة” اللبنانية بالقصف الإسرائيلي الهمجيّ، كما لو أنّها “مقاومة” سينمائية للحظة “الموت” و”التدمير”، بالتذكير بلحظات “مضيئة” في تاريخنا، وإعادة “الحياة” و”الروح” لها على الشاشات.