لم يعش قائد فيلق القدس قاسم سليماني ليرى المجد الذي بناه يتهاوى. هو الذي أعلن قبل سنوات سيطرة إيران على أربع عواصم عربية. ها هي طهران بدأت تنكفئ عنها واحدة تلو الأخرى. حتى الأمين العامّ لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله لم يُكتب له أن يرى “الهزائم” التي تتوالى، وهو الذي حالف النصر ووعد به شعبه وجمهوره دائماً.
تأخّر مشروع تقويض نفوذ إيران في المنطقة وإنهائه أربع سنوات، وكانت شرارة إطلاقه اغتيال سليماني في العراق، علماً أنّ طهران لم تلتقط الإشارة وأصرّت على الانتقال إلى وحدة الساحات والجبهات التي تشهد تفكّكاً متتابعاً.
لطالما ارتبط المشروع الإيراني في المنطقة بالارتكاز على الوجود في سوريا. ولطالما أكّد مسؤولون إيرانيون، كما نصرالله، أنّ سقوط النظام السوري وسيطرة المعارضة على سوريا سيعنيان الهزيمة الاستراتيجية لإيران ومشروعها ولـ”الحزب”، من خلال قطع طرق الإمداد وخنق المتنفّس الوحيد لـ”الحزب”.
حصل السقوط المدوّي لبشار الأسد وسط تضارب في القراءة لدى الإيرانيين و”الحزب”. فبعضهم يحمّله مسؤولية ما جرى، ويحاول الإيرانيون التبرير لأنفسهم بأنّهم كانوا على خلاف كبير معه منذ قرّر الانفتاح على العرب وتغيير مساره. أمّا البعض الآخر فيعتبر أنّ خروجه كان بسبب عدم رضوخه للضغوط الدولية والإقليمية وخوفاً على حياته. في كلّ الأحوال انتهت حقبة طويلة من التاريخ الأسديّ في سوريا، ومعها تنطوي صفحات إيرانية كثيرة.
وتر ما بين البعثين
تمكّنت إيران من اللعب على وتر ما بين البعثين، فخاضت حرباً شرسة مع بعث العراق، لشدّ العصب الداخلي، وتعزيز العصبويّة الشيعية والقومية الإيرانية في مواجهة العرب. وتحالفت مع البعث السوري الذي كان خصماً لدوداً لبعث العراق، في سبيل الانتقام من معركة القادسية التاريخية، والتسلّل إلى دول المنطقة ضمن مشروع تصدير الثورة، وصولاً إلى إسقاط صدّام حسين.
خرجت إيران من المعادلة الفلسطينية بعد عملية طوفان الأقصى، وعدم انخراطها المباشر في الحرب
فتح سقوط صدّام الباب واسعاً أمام توغّل إيران في المنطقة، وتمكّنها من تعزيز استراتيجيّتها لتوسيع نفوذها. أمّا سقوط الأسد فمن شأنه أن يفتح باب عودة إيران إلى الداخل، ويفتح مساراً لإنهاء الانفلاش الإيراني في الشرق الأوسط.
خرجت إيران من المعادلة الفلسطينية بعد عملية طوفان الأقصى، وعدم انخراطها المباشر في الحرب. وجّهت لها اتّهامات بأنّها تفاوض بقتال حلفائها لحماية نظامها، لكنّ الخروج كان بالموافقة على حلّ الدولتين، وهو طرح عربي لإنهاء الصراع ولإحقاق حقّ الفلسطينيين.
في لبنان وضعت إيران نفسها على طريق الخروج بعد الحرب الإسرائيلية على “الحزب” وتصفية قياداته السياسية والأمنية والعسكرية، وبعد الموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار الذي ينهي الصراع مع إسرائيل انطلاقاً من جنوب نهر الليطاني ويحصر السلاح بيد الدولة على كلّ الأراضي اللبنانية.
بسقوط الأسد سارع الإيرانيون إلى الانسحاب من سوريا، والتعاطي بواقعية وسط رهانات على تركيا وقطر لضمان بعض المصالح. وقد عبّر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي بوضوح عن حجم الخسارة عندما قال: “المسار الاستراتيجي بين إيران و”الحزب” قد يتأثّر بما يجري في سوريا”.
الانقسام الشّيعيّ
لم تنجح إيران في جعل العراق ساحة اشتباك مباشر مع إسرائيل، ولم تنجح في إقحام العراقيين في معركة الدفاع عن الأسد. بينما نجحت واشنطن في فرض توازنات كثيرة داخل العراق ليتكرّس انقسام شيعي- شيعي. إذ تشدّد المرجعية النجفيّة وعلى رأسها السيّد السيستاني على حصريّة السلاح بيد الدولة، وهو ما يؤيّده مقتدى الصدر وعمّار الحكيم وهادي العامري ، بالإضافة إلى انقسامات كثيرة داخل “الإطار التنسيقي” وبين فصائل الحشد.
لم تنجح إيران في جعل العراق ساحة اشتباك مباشر مع إسرائيل، ولم تنجح في إقحام العراقيين في معركة الدفاع عن الأسد
في اليمن، تجد إيران نفسها أمام استحقاق الحفاظ على التوازن الحالي، والوصول إلى حلّ شامل للأزمة اليمنية بالتفاهم مع المملكة العربية السعودية. وهناك مفاوضات جارية لأجل الوصول إلى الصيغة الملائمة، علماً أنّ تل أبيب تتحضّر لتنفيذ ضربات قويّة في اليمن لإضعاف الحوثيين، في حال لم يتمّ إيجاد حلّ جذري لهم يوقفهم عن إطلاق الصواريخ والمسيّرات.
تتحضّر إيران لمواجهة استحقاقات كثيرة، بما فيها حصول تحرّكات واحتجاجات في الداخل الإيراني، اعتراضاً على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، وإهدار الثروات على مشاريع إقليمية وصلت إلى الفشل.
لدى إيران هاجسان أساسيّان:
1- أن يستأنف دونالد ترامب ضغوطه الاقتصادية وفرض المزيد من العقوبات، مع تشديد الخناق على إيران في العراق، من خلال عدم السماح لها باستخدام المتنفس العراقي لتحصيل بعض المكتسبات. والمعروف أنّ ترامب يلجأ إلى أقصى أنواع الضغوط للإتيان بخصمه إلى طاولة التفاوض.
2- إقدام بنيامين نتنياهو على تنفيذ ضربات عسكرية تستهدف المشروع النووي، على الرغم من استبعاد هذه المسألة حالياً. ولكن لتجنّبها، ستكون طهران أمام خيار تكرار “تجرّع كأس السمّ”.
إقرأ أيضاً: إيران وسقوط أحجار الدّومينو
لا تجد طهران خياراً أمامها إلّا استئناف التفاوض بشكل جدّي، لكن هذه المرّة وفق الشروط الأميركية والغربية، وأن تكون مستعدّة بقوّة لتقديم تنازلات حقيقية، علماً أنّ المطلوب منها هو إعلان تغيير كلّ رؤيتها الاستراتيجية، وإعلان وقف مشروع تصدير الثورة وإرساء النفوذ في دول أخرى، وسيكون مرتبطاً بلحظة الوصول إلى تفاهمات كبرى مع القوى الدولية والإقليمية، وسيكون جزء من هذا التفاهم مرتبطاً بآليّة تغيير سلوك النظام أو التغيير من داخله في إطار البحث عن عملية التوريث في مرحلة ما بعد المرشد.