الأحداث المتسارعة التي يشهدها الإقليم، بخاصة المناطق التي شكّلت وتشكّل المجال الحيوي للنفوذ الإقليمي لإيران، وآخرها السقوط السريع لنظام بشار الأسد السوري، لا شكّ أنّها نقلت المنطقة إلى مستوى جديد من المعادلات لم تعد معه طهران والقيادة الإيرانية قادرة على الاستمرار في التعامل بالآليّات نفسها التي اعتمدتها على مدى العقود الماضية.
الشهران الأخيران من معركة إسناد طوفان الأقصى التي خاضها “الحزب” في لبنان شكّلا المتحوّل الاستراتيجي والجوهري في عمل المحور الذي تقوده طهران، ووضعاه أمام تحدّيات مختلفة وجوهرية. بل وحتى في مواجهة أسئلة وجودية، أو على الأقلّ أسئلة حول الجدوى والعائد من هذه الحرب، وهل كانت على قدر الخسائر والأثمان التي قُدّمت.
خطأ إيران الاستراتيجيّ في غزّة
قد يكون من المنطقي القول إنّ قيادة السلطة ومنظومة القرار في القيادة الإيرانية قد ارتكبت خطأ استراتيجيّاً عندما عجزت عن قراءة الحدث الفلسطيني وعملية طوفان الأقصى التي بدأتها حركة حماس في قطاع غزة، ومن بعده تطوّرات الحرب المفتوحة التي خاضتها تل أبيب ضدّ “الحزب”، وأخطأت في تقدير أنّ استراتيجية الحكومة الإسرائيلية في استهداف الأمين العامّ الراحل لـ”الحزب” ومن قبله قيادة “الحزب” العسكرية تتجاوز في أهدافها مشكلة التهديد الذي يشكّله سلاحه وصواريخه على الأمن الإسرائيلي، وأنّ اغتيال السيّد حسن نصرالله شكّل استهدافاً مباشراً لما يمكن اعتباره “عمود” المشروع الإقليمي والاستراتيجي للنظام الإيراني.
أسئلة كثيرة تدور في أوساط القواعد الشعبية وحتى النخبوية المقرّبة من “الحزب” وجميع القوى الحليفة لإيران في الإقليم، ربّما أبرزها يتعلّق بالأسباب التي جعلت إيران تمتنع عن التدخّل مباشرة في هذه الحرب مع إدراكها حجم الآثار والأبعاد السلبية للنتائج التي قد تؤدّي إليها. وكانت الفرصة سانحة أمام القيادة الإيرانية لتطبيق استراتيجية “وحدة الساحات” التي أعلنتها، حين أرسلت وزير خارجيّتها الأسبق الراحل حسين أمير عبداللهيان إلى حديقة “إيران” في بلدة مارون الراس على النقطة “صفر” من الحدود الشمالية لفلسطين المحتلّة.
الشهران الأخيران من معركة إسناد طوفان الأقصى التي خاضها “الحزب” في لبنان شكّلا المتحوّل الاستراتيجي والجوهري في عمل المحور الذي تقوده طهران
لماذا “غابت” إيران عن دمشق؟
انتظر الكثيرون من هذه النخب والقواعد الشعبية هبّة إيرانية، خاصة أنّ أيّ خلل في معادلات هذه الجبهة أو الوحدة المفترضة للساحات يعني انكشاف طهران لأنّ إضعاف أو هزيمة أيّ من أقطاب هذا المحور أو ساحاته لن تقتصر تداعياته على هذا الحليف، بل ستكون بمنزلة سقوط متتابع لأحجار دومينو هذا المحور، وهو ما سيضع إيران ونظامها بمواجهة الخطر المباشر، وبالتالي سيؤدّي إلى سقوط نظرية المرشد الأعلى التي اعتبرت أنّ الدفاع عن دمشق ومنع سقوطها هو دفاع عن طهران والنظام الإسلامي فيها.
دمشق تسقط فجر الأحد 8 كانون الأوّل الجاري
قد تكون البراغماتية الإيرانية، أو بتعبير أدقّ البراغماتية التي أدخلتها العقلية الإيرانية على المذهب الشيعي أو الشيعية السياسية، هي العقدة التي لم تستطع القوى الشيعية العربية فهمها في الإدارة السياسية الإيرانية لجميع ومختلف أزماتها وتعاملها مع القضايا الإقليمية والدولية، خاصة أنّ هذه البراغماتية تستند إلى مفهوم وتسويغ ديني وعقائدي وأيديولوجي يستمدّ منطلقاته من التصوّف الإسلامي أو العرفان الشيعي باعتبار “تعدُّد الطرق إلى الله بتعدّد أنفس الخلائق”.
“كيهان” والمرشد: “وحدة السّاحات” ليست عسكريّة
أوجد تعدُّد الطرق إلى الله عند المنظومة العقائدية والأيديولوجية للنظام الإيراني مسوّغات لإعادة تقديم تفسير جديد لوحدة الساحات، أو أهداف المحور الذي أسّسته إيران في المنطقة وقادته خلال العقدين الأخيرين.
يبدو من غير المستغرب على هذه العقلية ما صدر في صحيفة “كيهان” الناطقة باسم النظام والخاضعة لإشراف المرشد الأعلى مباشرة، والتي يعتبر رئيس تحريرها ممثّلاً للمرشد وتعتبر الذراع الإعلامي للنظام ومنظومة الحكم. فقد قدّمت تفسيراً جديداً لمفهوم “وحدة الساحات” لم يكن مطروحاً من قبل، في افتتاحيّتها ليوم السبت 7 كانون الأوّل 2024، تحت عنوان: “فهم جديد لوحدة الساحات والشبكة المعارضة له”. اعتبر المقال أنّ هذه الوحدة لا تقتصر على الجانب أو البعد العسكري، وإنّما تقوم على قراءات متعدّدة، وتشمل الوحدة السياسية والاقتصادية والأمنيّة والثقافية والاجتماعية، وأنّ هذه المستويات تعتبر أساساً في الحرب المركّبة التي تخوضها هذه الساحات مع الأعداء، وتستلزم وتفرض الاستمرار في الدعم والتنسيق.
قد يكون من المنطقي القول إنّ قيادة السلطة ومنظومة القرار في القيادة الإيرانية قد ارتكبت خطأ استراتيجيّاً عندما عجزت عن قراءة الحدث الفلسطيني وعملية طوفان الأقصى
اليمن ولبنان خضعا… والعراق “تمرّد”!
لم تضع القوى المشكّلة لمحور “وحدة الساحات” في أولويّاتها هذه الأبعاد التي قد تخرج بها التفاسير الإيرانية لهذا المفهوم وهذه الاستراتيجية. وهنا يمكن تقسيم هذه القوى إلى مستويين:
- الأوّل عقائدي وديني وأيديولوجي تحوّل إلى أولوية لدى الفريق اللبناني واليمني من خلال الاندماج في نظرية “ولاية الفقيه” التي تقترب من العصمة والقدرة المطلقة على تقدير المصلحة والأهداف، وتشكّل مظلّة وغطاء شرعيّاً ودينياً وعقائدياً لكلّ الأعمال والأفعال التي يقوم بها المؤمن بهذه النظرية، باعتبار “الوليّ الفقيه نائباً للإمام المهدي واستمراراً وامتداداً لحكم وسلطة الرسول الأكرم الذي هو خليفة الله على الأرض، والرادّ على الرسول كالرادّ على الله”.
- في حين أنّ المستوى الثاني من الحلفاء، الذي يشكّل العراق نموذجاً له، لم ينغمس في هذه المنظومة، لاعتبارات متعدّدة:
- أوّلها يعود إلى طبيعة وبنية الفرد العراقي المتقلّبة حسب وصف عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي.
- وثانيها تنامي الشعور المصلحيّ لدى القوى والأحزاب العراقية، خاصة بعد التجارب التي خاضتها خلال العقدين الماضيين في التعامل مع الدور والنفوذ والسياسة الإيرانية على الساحة العراقية.
- وثالثها يعود إلى البنية العقائدية لدى القوى والأحزاب الدينية العراقية التي تشكّل عصب “الإطار التنسيقي” الشيعي، والتي لا تؤمن بمبدأ أو نظريّة ولاية الفقيه، وكان تعاملها مع إيران يصبّ في إطار قراءتها لمعادلات تقاسم والمصالح المتبادلة بين طهران والولايات المتحدة الأميركية.
هذا لا يمنع وجود استثناءات في هذا المشهد، مثل حركة النجباء وكتائب حزب الله العراقية وكتائب سيّد الشهداء، التي تُعتبر فصائل عقائدية وأيديولوجية، لكنّها لا تسقط من حساباتها ومن بنيتها البعد الأساس في الشخصية العراقية المتحرّكة والحفاظ على المصالح.
إقرأ أيضاً: سرّ اجتماع غازي عنتاب الذي “أسقط” الأسد
خطأ “الحزب” في عدم استعمال ترسانته
انطلاقاً من هذه المفاهيم، قد يكون “الحزب” في لبنان تأخّر أو مارس نوعاً من الإنكار سابقاً في إدراك هذه الأبعاد في العقلية الإيرانية البراغماتية، خاصة عندما ربط استخدام السلاح الاستراتيجي في ترسانته باللحظة التي تتعرّض فيها إيران لأيّ خطر أو تهديد أو اعتداء أو حرب أميركية وإسرائيلية مباشرة، وأن لا يكون في مواجهة التحدّي الذي شكّله سقوط نظام الأسد في سوريا الذي سيضع “الحزبَ” أمام أسئلة حقيقية من قبل قواعده الشعبية التي قدّمت خلال السنوات الماضية الكثير من التضحيات دفاعاً عن الشعارات الأيديولوجية والدينية والعقائدية وللحفاظ على المقدّسات والمقامات الدينية، خاصة أنّ سقوط نظام الأسد سيعيد طرح السؤال عن أهمّية هذه الساحة في جدوى العمق الذي تشكّله طهران في المرحلة المقبلة، والذي فرض عليه تقبّل اغتيال أمينه العامّ مقابل الحفاظ على هذا العمق الاستراتيجي والأيديولوجي، ولا سيّما أنّ طهران بدأت بإرسال إشارات إلى استعدادها للتعامل مع الجماعة التي ستتولّى السلطة والحكم في سوريا الجديدة.