في 26 تشرين الثاني الماضي، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن في معرض تعقيبه على اتّفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل أنّ “الولايات المتحدة لا تزال مستعدّة لإبرام مجموعة من الصفقات التاريخية مع المملكة العربية السعودية، تتضمّن امتيازات أمنيّة واقتصادية للسعودية، وضمان إقامة دولة فلسطينية، والتطبيع الكامل للعلاقات بين السعودية وإسرائيل“… فلماذا قد تستغني الرياض عن هذه الصفقة؟
حين قال بايدن هذا الكلام بدا أنّه استحبّ “إنجاز” لبنان قبل انتهاء عهده واستبشر خيراً به لتحقيق إنجاز تاريخي في إبرام اتفاق تطبيع بين السعودية وإسرائيل. بعد هذا الإعلان بثلاثة أيام فقط أعلنت مصادر في السعودية أنّ الرياض تخلّت عن الاتفاق مع الولايات المتحدة، بما في ذلك ثناياه التطبيعية مع إسرائيل.
نشرت وكالة “رويترز” أنباء هذا التحوّل مستندة إلى مصادر سعودية وغربية. ولم يصدر عن واشنطن والرياض أيّ مواقف رسمية توضيحية. لكنّ الوكالة الأميركية تولّت تفسير الأمر بصفته قراراً سعوديّاً متمسّكاً باتفاق دفاعي أمنيّ “أكثر تواضعاً” مع الولايات المتحدة من دون أن يرقى إلى مستوى معاهدة فُهم أنّ الكونغرس الأميركي لن يصادق عليها من دون إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية بين السعودية وإسرائيل.
حين قال بايدن هذا الكلام بدا أنّه استحبّ “إنجاز” لبنان قبل انتهاء عهده واستبشر خيراً به لتحقيق إنجاز تاريخي في إبرام اتفاق تطبيع بين السعودية وإسرائيل
ولئن تكثَّف التواصل بين واشنطن والرياض على مستويات مختلفة من أجل وضع ما قيل إنّه “اللمسات الأخيرة” لهذا الاتفاق، غير أنّ المواقف السعودية المعلنة، وخصوصاً في الأشهر الأخيرة، والمتعلّقة بالشأن الفلسطيني، وجدت على ما يبدو عند الطرف الأميركي آذاناً ساهية أو صمّاء وربّما عيوناً لا ترى ما استجدّ في عقلية الحكم في الرياض كما في تحوّلات المنطقة والعالم في السنوات الأخيرة.
الشّرط السّعوديّ الفلسطينيّ… أوّلاً
مع بدء الحديث عن محادثات لإبرام اتفاق دفاعي استراتيجي بين السعودية والولايات المتحدة منذ زيارة بايدن الرياض في حزيران 2022، سارت المداولات بسرّية وتكتّم لم يقطعهما إلّا صحف الولايات المتحدة. تحدّثت المعلومات من واشنطن عن ثلاث عناوين لإبرام الاتفاق، فيما تحدّثت السعودية علناً عن عنوان واحد معتبرة أنّ العنوانين الآخرين من بديهيّات اتّفاق كهذا.
قالت صحف واشنطن إنّ الاتّفاق يشمل تعاوناً دفاعياً واسعاً يرقى إلى مستوى تعهّد الولايات المتحدة بالدفاع عن المملكة في حال تعرّضها لعدوان. ويشمل أيضاً تعاوناً لبناء برنامج نووي سعودي للأغراض المدنية. ويشمل أخيراً إقامة علاقات سعودية إسرائيلية. بالمقابل قالت الرياض رسميّاً إنّ هذا الاتفاق، بما في ذلك شقّه التطبيعيّ، مشروط بإقامة دولة فلسطينية.
استمرّت واشنطن تناور وتداور وتدقّ باب الاتفاق العتيد من زواريب خلفيّة. واستمرّت الرياض من جهتها في التعامل مع الحدث تحت الضوء، ومن أبوابه العريضة، وبكلّ شفافيّة. وأعربت عن الرغبة في إبرام الاتفاق، وشدّدت على شروطها المتعلّقة باعتماد حلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.
يتناسل موقف السعودية من مسألة التطبيع والدولة الفلسطينية من المبادرة السعودية للسلام في عهد الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز عام 2002
مؤتمر دوليّ من أجل دولة فلسطينيّة
ذهبت السعودية إلى تأكيد خيارها بصفته استراتيجياً، واعتمدته القمّة العربية الإسلامية الأخيرة في الرياض في 11 تشرين الثاني الماضي، وذهبت قبل ذلك في 27 أيلول الماضي، على هامش أعمال الجمعية العامّة للأمم المتحدة في نيويورك، إلى إعلان قيام “تحالف دولي من أجل تنفيذ حلّ الدولتين”.
في 30 من تشرين الأوّل الماضي، أطلقت السعودية في الرياض أعمال المؤتمر الأوّل لهذا التحالف، ورأست الاجتماع إلى جانب النرويج التي اعترفت أخيراً بدولة فلسطين. قال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إنّ “نحو 90 دولة ومنظّمة دولية شاركت في الاجتماع الذي استمرّ يومين”. ونُقل عنه القول إنّ “المملكة ستجيّش الرأي العامّ الدولي ضدّ ممارسات إسرائيل بحقّ الشعب الفلسطيني”.
ومع ذلك بدا أنّ في آمال بايدن تحقيق إنجاز التطبيع ما يُستنتج منه عدم جسّ واشنطن جيّداً وبدقّة وحصافة لنبض السعودية. أغلقت الرياض هذا الباب وأدارت الظهر لاتّفاق لا يأخذ بعين الاعتبار مصالح المملكة وأبجديّات سياستها الخارجية، خصوصاً في مسألة هي من صلب تاريخ العلاقة مع القضية الفلسطينية، وفتحت الطريق أمام اتّفاق مع واشنطن أقلّ شمولاً.
“مبادرة بيروت”… و”رشاقة” التّحالفات الدّوليّة
يتناسل موقف السعودية من مسألة التطبيع والدولة الفلسطينية من المبادرة السعودية للسلام في عهد الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز عام 2002. تحوّل ما هو سعودي المنشأ إلى مبادرة عربية تبنّتها القمّة العربية في بيروت في العام نفسه. وضعت السعودية والعرب معها خيار إقامة علاقات مع إسرائيل مشروطاً بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة عاصمتها القدس الشرقية.
تقفز بعض التحليلات إلى الاعتقاد بأنّ الرياض تنتظر عهد دونالد ترامب لإبرام تلك المعاهدة مع واشنطن
في غياب تأكيد رسميّ لرواية “رويترز”، فإنّ احتمالات التحفّظ السعودي قد تنهل دوافعها أيضاً من إرادة سعودية بعدم إلزام النفس بعلاقة استراتيجية مع الولايات المتحدة كتلك التي تجمع الأخيرة مع اليابان وكوريا الجنوبية مثلاً، والاستمرار بالتمتّع برشاقة الحياد بين القوى الكبرى والاحتفاظ بهامش تعدّد العلاقات مع دول أخرى مثل روسيا والصين. كما أنّ استراتيجية الرياض في طيّ صفحة الخلاف مع دول مثل إيران وتركيا أو أيّ دول أخرى، تندرج ضمن مقاربة لصيانة الأمن الاستراتيجي من دون الارتهان للأحلاف والتزاماتها.
فيما تقفز بعض التحليلات إلى الاعتقاد بأنّ الرياض تنتظر عهد دونالد ترامب لإبرام تلك المعاهدة مع واشنطن، غير أنّ ذلك قد لا يكون دقيقاً بالنظر إلى أنّ أسباب السعودية، سواء في المسألة الفلسطينية أو في “مغادرة” الاستقطاب الواحد، لن تختلف بين زمن بايدن الراحل وزمن ترامب العائد من جديد.
إقرأ أيضاً: مفاجآت الحرب ومفاجأة اليوم التّالي…