كان هناك وقتٌ، في الزمان غير البعيد، حيث الانتخابات الأميركية كانت تُحكم بالمبادئ: كانت هناك برامج انتخابية، قيم، واحترام للمنصب. ثمّ جاءت سنة 2024، وقرّرت أميركا أنّ الوقت قد حان لمشهد جديد في حكاية “روكي” السياسية.
الموضوع الرئيسي لفيلم روكي (1976)، الذي كتبه وقام ببطولته سيلفستر ستالون، هو انتصار المستضعَف من خلال الصمود والعزيمة والإيمان بالنفس. تدور القصة حول روكي بالبوا، وهو ملاكم بسيط من الطبقة العاملة في فيلادلفيا يحصل على فرصة غير متوقّعة للتنافس على لقب الوزن الثقيل. وعلى الرغم من الصعاب يعود الملاكم ويفوز.
عندما ظننّا أنّ الولايات المتحدة لا يمكنها رفع مستوى الجنون السياسي أكثر، فإذا بدونالد جيه ترامب يفوز في الانتخابات وسيعود إلى المكتب البيضاوي بعد دراما تجعل هوليوود تتوارى خجلاً. في الحقيقة، أميركا تعشق هذه القصص، وربّما علينا أن نطلق عليها اسم “الولايات المتحدة لأفلام البطولة”. فهو خسر انتخابات التجديد في 2020، وتمّ عزله مرّتين في مجلس النواب وتمّت إدانته وتعرّض لمحاولتَي اغتيال أصيب بأحدها، علاوة على كمّ من التصريحات والفضائح.
كان هناك وقتٌ، في الزمان غير البعيد، حيث الانتخابات الأميركية كانت تُحكم بالمبادئ: كانت هناك برامج انتخابية، قيم، واحترام للمنصب
قواعد أميركيّة تاريخيّة
الأمر بسيط للغاية:
– قاعدة ريغان الذهبية: “هل أنت أفضل حالاً ممّا كنت قبل أربع سنوات؟”.
– وقاعدة كارڤيل الصريحة: “إنّه الاقتصاد، يا غبيّ”، التي كانت شعار الرئيس بيل كلينتون حين هزم جورج بوش الأب، لم تتوقّف يوماً عن كونها مهمّة. عندما نظر الناخبون إلى محافظهم وأسعار البنزين، اختاروا الرجل الذي أخبرهم أنّ العالم يتهاوى، وأنّه الوحيد القادر على إصلاحه. فعلها بلمسة ستجعل حتى محمد علي كلاي الذي عاد وهزم جو فرايزر يشعر بالغيرة.
وهكذا نحن هنا. القوّة العظمى الأغنى في العالم، حيث الرجل الذي اعتبر النظام “مزوّراً” عاد عبر هذا النظام نفسه منتصراً على كلّ التوقّعات ليفوز مرّة أخرى. البعض وصفه بالجنون السياسي، والبعض الآخر أشاد به كعبقرية. عودة ترامب تبدو وكأنّ الأمة قرّرت أن تصبح بطلة في مسلسل درامي واقعي، مليء بالفوضى، والتشويق، والمنعطفات غير المتوقّعة التي يبدو أنّ أميركا تشتهيها هذه الأيام.
عودة ترامب تبدو وكأنّ الأمة قرّرت أن تصبح بطلة في مسلسل درامي واقعي، مليء بالفوضى، والتشويق، والمنعطفات غير المتوقّعة التي يبدو أنّ أميركا تشتهيها هذه الأيام
ما الذي يعنيه هذا للعالم؟
عودة ترامب إلى البيت الأبيض ستُستقبل عالمياً وكأنّ الولايات المتحدة تبنّت استراتيجية دبلوماسية مستوحاة من عالم المصارعة الحرّة. من المتوقّع أن يتعامل قادة العالم، من الأوروبيين الرصينين إلى الروس المتصافحين، مع أميركا ترامب مثل مدرّبي الحيوانات الحذرين، والحيوان هنا ودود… ولكن لا أحد يعرف حقّاً ما الذي سيفعله لاحقاً.
في ظلّ ترامب، ستُدار السياسة الخارجية على مبدأ الارتجال. الحلفاء الدوليون عليهم الاستعداد لأيّ مفاجأة، لأنّهم قد يتلقّون الإطراء أسبوعاً ثم العقاب في الأسبوع التالي، وكأنّهم في برنامج واقع تلفزيوني. والصين؟ استعدّوا لحلبة “ثاندردوم” بنسخة ترامب، حيث يعني شعار “أميركا أوّلاً” أنّهم دائماً في الزاوية الأخرى يستعدّون للجولة المقبلة من حرب تجارية.
القضايا المحلّيّة: وداعاً للولايات المتأرجحة.. وأهلاً بأميركا المتقلّبة
لم تعد أميركا مجرّد ديمقراطية ذات ولايات متأرجحة. البلاد بأكملها الآن ولاية متأرجحة. تتمايل كلّ عامين بين التفاؤل والغضب. تتأرجح بين “التغيير” و”الرجوع للتغيير الأوّل”.
في هذا النموذج الجديد، لم تعد أيديولوجية البلاد مربوطة بقيم عميقة أو ولاء حزبي… بل يتحكّم بها أيّ مرشّح يُلقي الجملة الأكثر تأثيراً أو “الميم” الأكثر انتشاراً على شبكات التواصل الاجتماعي. وكلّ دورة انتخابية، تتأرجح أميركا بين الأحمر والأزرق والعالم يترقّب بحذر.
في ظلّ ترامب، ستُدار السياسة الخارجية على مبدأ الارتجال. الحلفاء الدوليون عليهم الاستعداد لأيّ مفاجأة، لأنّهم قد يتلقّون الإطراء أسبوعاً ثم العقاب في الأسبوع التالي
أعادت عودة ترامب كتابة قواعد اللعبة الانتخابية. من الآن فصاعداً، كلّما كان المرشّح غريباً أكثر، كان أفضل. في المستقبل، لن يحتاج الرؤساء فقط إلى برامج انتخابية، بل إلى حركات استعراضية، وخطابات متفجّرة، وعروض على منصّة إكس وتيك توك.
هل هذا الفصل الأخير؟
قد يسأل العالم: “هل يمكن للولايات المتحدة الاستمرار بهذا النهج؟. كم مرّة يمكن تحويل النظام السياسي بالكامل إلى مسلسل درامي قبل أن يفقد كلّ شيء معناه؟”.
في وقت يحتاج فيه الاستقرار العالمي إلى كلّ بوصة من الحكمة، رمت الولايات المتحدة دورها شرطيّاً للعالم في سلّة المهملات. الآن أصبحت الولايات المتحدة الديمقراطية التي يمكن أن يحدث فيها أيّ شيء، وكلّ انتخابات هي ختام موسم جديد.
إقرأ أيضاً: هل يتذكّر ترامب وعده للّبنانيّين… ويبعد إسرائيل وإيران؟
وضعت عودة ترامب سابقة جديدة: الأيام الهادئة من القيادة المتوقّعة قد انتهت. أيّام الاستراتيجيات الكبرى، والتخطيط البعيد المدى، والبروتوكول الدبلوماسي قد ولّت. أميركا الآن هي الدولة التي تعشق العودة الكبيرة، وإذا تضمّنت هذه العودة خطاباً صاخباً وشخصيّة أكبر من الحياة، فهذا أفضل وأفضل.
لمتابعة الكاتب على X: