تحتلّ ثلاث بؤر متفجّرة في العالم اهتمام الإدارة الأميركية (الحالية والمقبلة). وهذه البؤر هي: غزّة في الشرق الأوسط، أوكرانيا في أوروبا، وتايوان في الشرق الأقصى. وهناك بؤرة رابعة ملّ العالم من إحصاء عدد ضحاياها من القتلى والجرحى والمشرّدين، هي السودان. ويقدّر عدد هؤلاء الضحايا بأكثر من 150 ألف قتيل، إضافة إلى ملايين المشرّدين.
تتداخل هذه البؤر الأربعة لتعكس معاً أزمة النظام أو اللانظام العالمي. ومن خلال هذا التداخل ومن خلال الارتباط الميداني بين لبنان وغزة، يمتدّ الاهتمام الأميركي إليه. وتعزّز من هذا التمدّد الاهتمامات الأوروبية التي تقودها فرنسا (مؤتمر باريس)، كما أنّ العبرة (والخوف من تداعياتها) تشكّل القاسم المشترك بين هذه الاهتمامات. وتتصدّر دول أوروبا لائحة هذه الدول الخائفة أو المتخوّفة من تداعيات الهجرة أو الهجرات على أمن وسلامة وتناسق مجتمعاتها الوطنية.
كانت أوروبا تخشى من تحويل لبنان إلى منطلق للهجرة السورية إليها، فاستحدثت برنامجاً للمساعدات يهدف إلى إبقاء المهاجرين السوريين في لبنان، ليس نكاية بلبنان، ولا حبّاً بالسوريين، لكن أوّلاً لإقفال باب الهجرة إليها. تخشى أوروبا الآن من تدفّق الهجرة اللبنانية وليس الهجرة من لبنان فقط. ولذلك تحاول المجموعة الأوروبية بقيادة فرنسا التعاون مع الولايات المتحدة على إنتاج تسوية لبنانية يؤدّي نجاحها إلى إقفال أبواب هذه الهجرة.
قنبلة اجتماعيّة موقوتة
أدّى العدوان الإسرائيلي على لبنان (الجنوب والبقاع وخاصة بيروت)، إلى هجرة داخلية واسعة. ولكنّ هذه الهجرة قد تتحوّل مع الوقت إلى قنبلة اجتماعية موقوتة لا يسحب فتيلها سوى الهجرة. تؤكّد الدراسات الميدانية أنّ المهاجرين في هذه الحالة لن يكونوا من السوريين، ولا حتى من أهل الجنوب المنكوبين حصراً، وإذا حدث ذلك، لا سمح الله، فإنّ هويّة لبنان ستكون معرّضة للتغيير، وكذلك دوره… وحتى رسالته… وبالتالي مبرّر وجوده!
من غزّة إلى تايوان، ومن أوكرانيا إلى السودان، تبدو بؤر هذه الصراعات السياسية متداخلة ومترابطة كسلسلة واحدة في ظلّ غياب نظام عالمي
وُلد لبنان الدولة عام 1920 بعملية جراحية دوليّة تناولت تحديد مصائر شعوب ورسم حدود دول وطنية وإقامة تحالفات سياسية. كانت ولادته معجزة بحدّ ذاتها. وكانت المحافظة عليه بصيغته ودوره معجزة أخرى. صحيح أنّها واجهت مطبّات وشهدت أزمات وحروباً داخلية مدمّرة، إلا أنّ صيغته استعصت على الإلغاء وحتى على التجاوز… بل أصبحت إنسانياً، مثلاً يُحتذى، كما أعرب عن ذلك البابا يوحنّا بولس الثاني.
نجح البابا الراحل في تحويل هذا المثل إلى مثال من خلال السينودس الذي أقامه عام 1995 والذي كرّسته وثيقة الإرشاد الرسولي. وجدّد التمسّك بهذا الالتزام البابا بنديكتوس السادس عشر من خلال السينودس الذي أقامه حول الشرق الأوسط عام 2010، والذي أسقط مقولة التسامح ورفع راية المواطنة والحقوق المتساوية بين المواطنين وعلى رأسها الحقّ في الحرّية الدينية.
مبادرة فاتيكانيّة ثالثة
الآن يحتاج لبنان إلى مبادرة فاتيكانية ثالثة يطلقها البابا فرنسيس الذي أعرب في مناسبات عديدة عن التزامه بلبنان الرسالة، خصوصاً بعدما تعرّضت هذه الرسالة للجرائم التي لحقت بالبنية الاجتماعية اللبنانية، إثر ما لحق بمدنه وقراه من تدمير، مستهدفة أوّلاً وبالدرجة الأولى طعن رسالته وتدميرها. كما استهدفت دوره في شرق أوسط متعدّد الأديان والمذاهب والقوميّات.
من هنا، يشكّل الموقف من لبنان المفتاح لمعرفة أيّ شرق أوسط يُرسم من جديد في ظلّ الصراعات الدولية المتفجّرة فيه ومن حوله أو تلك التي هي على لائحة الانتظار.
فمن غزّة إلى تايوان، ومن أوكرانيا إلى السودان، تبدو بؤر هذه الصراعات السياسية متداخلة ومترابطة كسلسلة واحدة في ظلّ غياب نظام عالمي، خيط جامع، تلتزم به أطراف هذه الصراعات… وسط دوّامة هذه الانفجارات الاجتماعية والعسكرية (السودان، غزّة، أوكرانيا).
أدّى العدوان الإسرائيلي على لبنان (الجنوب والبقاع وخاصة بيروت)، إلى هجرة داخلية واسعة. ولكنّ هذه الهجرة قد تتحوّل مع الوقت إلى قنبلة اجتماعية
يحاول لبنان، الذي تتقاذفه الأقدام في لعبة الأمم، أن يتلمّس طريق الخروج من دوّامة الصراعات المتفجّرة في الشرق الأوسط، وفي العالم.
لقد أثبتت التجارب، وكلّها تجارب مرّة ومؤلمة، أنّ الانغلاق الطائفي على الذات ليس حلّاً، وأنّ الهروب من مواجهة الوقائع بالهجرة والتخلّي عن الالتزامات الوطنية ليسا حلّاً أيضاً.
إقرأ أيضاً: استدراج العالم إلى الحرب النّوويّة
أثبتت التجارب، وما أكثرها، أنّ الشجاعة الوطنية في استيعاب التحدّيات التي تفرضها التحوّلات في معادلات القوى الدولية والإقليمية، والإيمان المشترك بلبنان ورسالته، هما ضرورتان “وجوديّتان” لا بدّ منهما للخروج مرّة جديدة من تحت الأنقاض.