فيلم سودانيّ على لائحة الأوسكار… يحطّ في طرابلس

مدة القراءة 8 د

يأتي عرض فيلم “وداعاً جوليا” للمخرج السوداني محمد كردفاني الفائز بعشرات الجوائز في العالم، في مهرجان طرابلس للأفلام المنعقد بين 19 و25 أيلول الجاري في عاصمة لبنان الشمالية، تحت شعار الأمل والصمود”، في ظلّ حروب تدور حولنا من جنوب لبنان إلى غزّة والضفة الغربية في فلسطين إلى اليمن والعراق وليبيا والسودان.

الفيلم السوداني “وداعاً جوليا” هو الأوّل الذي ترشّح لجائزة الأوسكار. وحمل منذ إنتاجه في 2023 اسم السودان عالياً في أكثر من 100 مهرجان عالمي مثل “كان” و”شيكاغو” و”بالم سبرينغز” و”وارسو” و”الجونة” في مصر. وإلى جانب أكثر من 50 فيلماً عربياً وأجنبياً، اختير للمشاركة في مسابقات المهرجان اللبناني في دورته الحادية عشرة.

لكنّ عرض الفيلم الفائز بأكثر من 40 جائزة، اليوم تحديداً، مختلف تماماً عن العروض السابقة، إذ يغرق السودان اليوم بالدم بعد 11 شهراً من حرب أهلية ضروس بين قوات الدعم السريع والقوات المسلّحة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان – الشمال. ويعاني من أكبر أزمة نزوح داخلي وجوع في العالم، وحده وبصمت ومن دون أن يتضامن أحد مع أهله ومن دون تغطية إعلامية خاصة وبارزة.

الفيلم السوداني “وداعاً جوليا” هو الأوّل الذي ترشّح لجائزة الأوسكار. وحمل منذ إنتاجه في 2023 اسم السودان عالياً في أكثر من 100 مهرجان عالمي

فورين بوليسي على خطّ “المأساة”

ذكر تحقيق نشرته مجلّة “فورين بوليسي” الأميركية الأربعاء الفائت أنّ القتال دفع 25 مليون شخص، أكثر من نصف سكّان البلاد، إلى الجوع الحادّ، وأجبر نحو 11 مليون شخص على الفرار من ديارهم، بما في ذلك 2.3 مليون فرّوا إلى الخارج. وحذّرت وكالات الإغاثة من أنّ أكثر من مليونَي سوداني قد يموتون بحلول نهاية هذا العام.

روت نساء للمجلّة أنّهن تعرضن للاغتصاب، وتزايدت التقارير عن التعذيب واستخدام الأطفال دون سنّ 15 عاماً في القتال والمذابح العرقية التي ارتكبتها قوات الدعم السريع والميليشيات المسلّحة على مدار العام الماضي.

تؤكّد كلّ هذه المعلومات أنّ اختيار الفيلم الحائز “جائزة الحرّية” في مهرجان “كان” الفرنسي 2023، ليكون في مهرجان طرابلس، هو لفتة إنسانية ورسالة صمود حقيقية يحتاج إليها أهالي السودان اليوم، ونحن اللبنانيين والعرب على الأقلّ، لنسأل:

– ماذا يحصل هناك؟

– من ضدّ من؟

– من يمنع الطعام عن السودانيين؟

– من يقوم بعمليات الاغتصاب ومن يستغلّ الأطفال؟

ذكر تحقيق نشرته مجلّة “فورين بوليسي” الأميركية الأربعاء الفائت أنّ القتال دفع 25 مليون شخص، أكثر من نصف سكّان البلاد، إلى الجوع الحادّ

– كيف يمكن أن نعلي صوتنا ضدّ الجرائم؟ وكيف يمكن أن نطالب بتمويل الاستجابة الإنسانية الدولية التي هي أيضاً تعاني نقصاً حادّاً في التمويل؟ فقد تمّ تمويل نداء الأمم المتحدة لجمع 2.7 مليار دولار بنسبة 32% فقط، بحسب “فورين بوليسي”.

– هل يمكن التحرّك قانونياً لاعتبار ما يحصل هناك جرائم حرب وإبادة جماعية؟ إذ أفادت بعثة مفوّضة من الأمم المتحدة الجمعة الماضي بأنّ كلا الجانبين في الحرب الأهلية السودانية التي بلغت قرابة 17 شهراً ارتكبا انتهاكات “مروّعة” قد ترقى إلى جرائم حرب، داعيةً إلى فرض حظر على الأسلحة في جميع أنحاء البلاد.

جروح الانقسامات

يطرح “وداعاً جوليا” أسئلة عدّة حول المجتمع السوداني وتاريخه وأصل أعراقه وقبائله منذ ما قبل الاستعمار البريطاني والعودة إلى مكوّنات هذا المجتمع منذ تجارة الرقيق. الفيلم ليس عن الحرب الدائرة اليوم، لكنّه يعطي فكرة عن المجتمع السوداني. وقد يلتقط المشاهد بين خيوط السرد بعض الإشارات أو النقاط السياسية والأنتروبولوجية التي تحيله إلى ما يحصل اليوم… وهو صُوّر في ظروف صعبة كانت فيها الطرقات مقفلة ولم يكن من كهرباء ولا إنترنت، جرّاء الانقلاب السياسي في البلاد. وقد خدمت المشاهد الحقيقية للشوارع المغلقة والحالة العامّة حينها الصورة السينمائية للفيلم والإحساس بالحرب الحقيقية الدائرة.

يطرح “وداعاً جوليا” أسئلة عدّة حول المجتمع السوداني وتاريخه وأصل أعراقه وقبائله منذ ما قبل الاستعمار البريطاني والعودة إلى مكوّنات هذا المجتمع منذ تجارة الرقيق

يلعب السيناريو دوراً مهمّاً في الفيلم، إذ يتناول قضايا كبرى من زاوية حميمية السودانيين وكيف تؤثّر الانقسامات والعنصرية والطبقية على أفكار الناس وأجسادهم وذكرياتهم الفردية والجماعية، كما على انتماءاتهم وسلوكيّاتهم، وكيف تترك جروحاً لا تندمل.

قصة الفيلم الذي كتبه وأخرجه محمد كردفاني وأنتجه أمجد أبو العلا (صاحب فيلم “ستموت في العشرين” في 2019، وهو أوّل فيلم روائي سوداني طويل يُصنع منذ 20 سنة)، تحكي حكاية أكرم (نزار جمعة) الزوج الملتزم دينياً وزوجته منى (الممثّلة والمغنّية إيمان يوسف) التي لا تنجب الأطفال واعتزلت الغناء بناء على طلب زوجها. تحاول التخفيف من شعورها بالذنب للتسبّب في وفاة رجل (قير دويني) من جنوب السودان من خلال توظيف زوجته جوليا (الممثّلة سيران رياك) خادمة في منزلها ومساعدتها. أحداث كثيرة تتوالى وصولاً إلى خاتمة تواكب إعلان جنوب السودان استقلاله.

بدأ محمد كردفاني كتابة الفيلم في 2018 بدعم من مهرجان الجونة السينمائي. واستغرق في كتابة الفيلم وقتاً طويلاً ليروي القصة، كما قال في دردشة هاتفية مع “أساس”. وأضاف: “لأنّني أنا نفسي كنت في طور التغيير نحو قيم أكثر تقدّمية، وعملية التغيير هذه استغرقت 20 سنة في داخلي. فنحن في السودان نعيش في مجتمع محافظ جداً، ومجبورون على العيش في حياة مزدوجة أو حياة بوجهين، ومجبورون على الكذب لنبقى على قيد الحياة”. ولكن لأيّ هدف؟ وما المغزى من ذلك؟ هذا الأمر هو الذي تدور حوله شخصية منى.

يلعب السيناريو دوراً مهمّاً في الفيلم، إذ يتناول قضايا كبرى من زاوية حميمية السودانيين وكيف تؤثّر الانقسامات والعنصرية والطبقية على أفكار الناس

وجهة نظر جندريّة

اختار المخرج العنصر النسائي لمعالجة الصراع بين الشمال والجنوب السودانيَّين، بما أنّ النساء هنّ الأكثر هشاشة وأكثر عرضة للانتهاكات الإنسانية. وقد استطاع “وداعاً جوليا” كسر محرّمات الحديث عن العنصرية داخل السودان الغنيّ بالأعراق والقبائل وتجري حرب اليوم بين مواطنيه لتقسيمه.

العنصرية والطبقيّة هما موضوعا الفيلم الرئيسيان من وجهة نظر جندرية. الشخصيتان الأنثويتان موجودتان لتوضيح ما كان يمكن أن يحدث. لولا أنّ منى دافعت عن زوج جوليا لكان قتله أكرم زوج منى نفسها.

يصوّر الفيلم النساء بصورة هادئة مسالمة بعيداً من العنف على عكس الرجال في حالات الصراع والثأر والحرب. السيّدتان جوليا ومنى تعانيان أيضاً من مجتمع ذكوري وقمع اجتماعي وعدم مساواة وعنصرية.

هذه قضايا كثيرة ومكثّفة نراها في سياق الفيلم تمرّ من خلال السيناريو الذكي غير المباشر والمشاهد السينمائية الواقعية وفي طبقات عدّة: المرأة العاقر، الأرملة، المرأة المقموعة من الزوج والأخرى من الجيران.

مقابل هذا النضج النسوي والهدوء، هناك حقد وغضب ورغبة عارمة بالثأر في الشارع السوداني، لا يخفيها الفيلم، بل يجسّدها في دور الطفل دانيال ابن جوليا وجسده وتفكيره ولاوعيه حيث تتملّكه فكرة قتل أبيه من قبل أهل الشمال، وفي حمل جوليا نفسها السلاح في المشهد الأخير.

الفنّ يجمع ما تفرّقه السياسة. لكنّ الفنّ يبقى ترفاً أمام الدم الذي يحتاج إلى قرار سياسي ووعي شعبي وإلى يد تقترع وتقرّر مصيرها كما حاولت جوليا وإن فشلت

نغمات السّودان الموسيقيّة

يتميّز الفيلم إضافة الى براعة ممثّليه ومخرجه بإيصال همسات السودان، المخفيّ فيها والمعاد، بموسيقاه التي كان لها دور مهمّ في شدّ المشاهد وتجسيد روح السودان في المشاهد الحسّاسة والإنسانية من خلال النغمات المحلّية الصنع.

الموسيقى منسّقة لتكون سودانية محض من الشمال ومن الجنوب، كأنّ المخرج أراد إعطاء موقف عبر المقطوعات الموسيقية في الفيلم ليتحدّث عن تعايش ما، عن هارموني في زوايا العاصمة الخرطوم وأمّ درمان.

قد يكون هذا التعايش من خياله أو طيف ذكرى من أيّام خلت عاشها في طفولته أو مراهقته، إذ لم يعد أيّ جنوبي في الخرطوم عندما صدر الفيلم في 2023، ولم تعد البلاد بلاد اليوم أصلاً.

إقرأ أيضاً: السّعوديّة تفتح أبوابها لحركة ترجمة تاريخيّة

مشهد منى عندما تفشل في العزف هو دليل على الكآبة التي تعيشها في مجتمع ذكوري قمع صوتها وموهبتها. لكنّنا نعود ونراها تغنّي وتفرح وتبتسم من قلبها في الكنيسة التي تلجأ إليها جوليا ليس فقط للصلاة إنّما للقاء الجنوبيين مثلها والبحث عن الحبّ. هناك تتلاشى كلّ الفوارق العنصرية بينهما، في ساحة مفتوحة بعيداً من الجيران والأزواج، وواحدة تحرّر صوتها وأخرى تحرّر قلبها.

في النهاية الفنّ يجمع ما تفرّقه السياسة. لكنّ الفنّ يبقى ترفاً أمام الدم الذي يحتاج إلى قرار سياسي ووعي شعبي وإلى يد تقترع وتقرّر مصيرها كما حاولت جوليا وإن فشلت.

مواضيع ذات صلة

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…

90 عاماً من فيروز: صوت تاريخنا… ولحن الجغرافيا

اليوم نكمل تسعين سنةً من العمر، من الإبداع، من الوطن، من الوجود، من فيروز. اليوم نحتفل بفيروز، بأنفسنا، بلبنان، وبالأغنية. اليوم يكمل لبنان تسعين سنةً…

سيرتي كنازحة: حين اكتشفتُ أنّني أنا “الآخر”

هنا سيرة سريعة ليوميّات واحدة من أفراد أسرة “أساس”، وهي تبحث عن مسكنٍ لها، بعد النزوح والتهجير، وعن مساكن لعائلتها التي تناتشتها مناطق لبنان الكثيرة…

الياس خوري: 12 تحيّة لبنانية وعربية (1/2)

العبثيّة، ثيمة تكرّرت في روايات الياس خوري بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. عبثيّة إمّا نحن نخوضها لتحرير الأرض والثورة على الجلّاد غير آبهين بحياتنا…