انتخابات الأردن: الاقتراع على إيقاع “الطوفان”

مدة القراءة 7 د

لا يمكن قراءة الانتخابات التشريعية الأردنية التي جرت الإثنين في 9 أيلول الجاري، إلا من منظار كارثة تجري في قطاع غزّة، ليس بعيداً من جغرافيا المملكة وقواعد قانون الاقتراع المحدّث في البلاد. فالنتائج، التي أعلنت الأربعاء، أتت وليدة ظرف زمان بعينه، بعد حوالي 11 شهراً على اندلاع الحرب في غزّة في 7 تشرين الأول 2023، وبعد ساعات على تنفيذ المواطن الأردني ماهر ذياب حسين الجازي إطلاق نار أودى بحياة 3 إسرائيليين في الجانب الآخر من جسر الملك حسين.

 

يجمع الجسر الشهير ضفّتي نهر الأردن، الشرقية والغربية. وربّما رمزية هذا المكان تشرح بجلاء قصّة الأردن مع فلسطينه. لا تشبه علاقة المملكة بفلسطين علاقة أيّ بلد عربي بالقضية التي لطالما كانت وما زالت “أولى” قضايا العرب. فتركيبة المجتمع الأردني من خليط ينتمي إلى الضفّتين يجعل من الحدث الفلسطيني، أيّاً يكن، حدثاً أردنياً عائلياً بامتياز. ولئن عبّر الشارع الأردني، بشكل مثابر ومميّز، عن غضب يوميّ جامع، فإنّ السخط يطال الأردن برمّته، قصراً وحكومة وجيشاً ومؤسّسات أمن وسياسة.

عادت إسرائيل لتطرح “حلّاً” خبيثاً يكون الأردن فيه من جديد ساحةً إضافية للمسألة الفلسطينية، وفق نسخات جديدة – قديمة تبرّعت بها خطب إسرائيلية تجد لها في أروقة العواصم الكبرى آذاناً صاغية. وبناءً عليها يتمّ التبشير بالأردن “وطناً بديلاً” للفلسطينيين يشرّع تفريغ الضفة الغربية من فلسطينيّيها وتهجيرهم بالقوّة والقتل والتدمير إلى الضفة الشرقية.

بدا للإسرائيليين أنّ شطب قضيّة شعب يستلزم فقط عبور النهر. وحين لوّحت حكومة بنيامين نتنياهو بـ”حلّ” في سيناء المصرية لأهل غزّة بعد “طوفان الأقصى”، جرت استعادة فكرة “الوطن البديل” في الأردن كمسار تكميليّ لورشة الإبادة الغزّيّة التي لاحت تداعيات دراماتيكية لها في الضفة الغربية.

لا يمكن قراءة الانتخابات التشريعية الأردنية التي جرت الإثنين في 9 أيلول الجاري، إلا من منظار كارثة تجري في قطاع غزّة

تحمل المؤسّسة الرسمية في الأردن السيناريوهات الإسرائيلية على محمل الجدّ. يبرّر ذلك نشاطاً دبلوماسياً حيوياً بدأته دوائر البلاط الملكي اعتراضاً، ويبرّر أيضاً لهجة قاسية انتهجها تصريحات وزير الخارجية. في تعبير عن إدانة الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزّة، وعن شطط تبيحه إسرائيل لنفسها لتجاوز الاتفاقات الدولية، من وادي عربة إلى أوسلو، التي أُريد لها أن تؤسّس لسلم وتسوية ولو بعد حين.

الغضب الأردنيّ في صناديق الاقتراع

لم يغب ذلك الغضب الأردني عن حوافز المقترعين في الأردن.

فلماذا تصدّر التيار الإسلامي، من خلال مرشّحي حزب “جبهة العمل الإسلامي” المشهد البرلماني الجديد من دون السيطرة على البرلمان، وحصلوا على 23% من المقاعد في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ المملكة؟

لأنّ الناخبين صوّتوا لجهة اعتبروها أعلى الأصوات الحزبية تعبيراً عن الغضب من الاحتلال الإسرائيلي، وأوضحها دعماً للفلسطينيين في الضفة الغربية والقطاع، وأشدّها ارتباطاً عقائدياً بحركتي “حماس” و”الجهاد”. بمعنى آخر فإنّ لـ”الطوفان” نبضاً مرجّحاً في صناديق الاقتراع، وربّما لولاه لما أخرجت هذه الصناديق تلك النتائج.

الأكثريّة الصّامتة

لم تجذب الانتخابات الناس للاقتراع. ظلّت نسب التصويت متدنّية في المدن الكبرى وإن وجدت جمهوراً في المناطق والأرياف. دُعيَ 5 ملايين ناخب إلى الاقتراع فلبّى الدعوة 1.5 مليون. وبدا أنّ الأكثرية الكبرى يمتلكها الصامتون. وللظاهرة أسباب تقليدية قد تجدها في كبرى الديمقراطيات في العالم تتعلّق بالحرَد من مؤسّسات السياسة. لكنّ للظاهرة أيضاً أسباباً أردنية بحتة لا تأمل من البرلمان الجديد، كما البرلمانات السابقة، تعبيراً مفيداً مغيّراً في حياة الناس وطموحاتهم.

الأردن

تجاوزت نسبة المشاركة في تلك الانتخابات 32 في المئة، وهي نسبة تمّ “الاحتفال” بها بصفتها تفوق المشاركة في انتخابات عام 2020، التي بلغت 29.9 في المئة. بمعنى آخر فإنّ حوالي 70 في المئة لم يكترثوا للاستحقاق وأداروا الظهر لهمّة الحملات الانتخابية لمرشّحين من 36 حزباً (من أصل 38 حزباً مسجّلاً في الأردن) ترشّحوا عن الدائرة العامّة، وحزبين للدوائر المحلّية.

لطالما كانت تجربة إسلاميّي الأردن و”إخوانهم” مختلفة عن تجارب الإسلام السياسي، على الأقلّ بالنسخ التي عرفتها المنطقة في موسم “الربيع” العربي

الفارق بين الدائرة العامّة المخصّصة للأحزاب والدائرة العامة الوطنية التي أُجريت بموجبها الانتخابات في عام 2013، أنّ تشكيلها كان لا يشترط أن يكون من فيها حزبيّين، كما استجدّ تطبيق مبدأ العتبة (نسبة الحسم) في هذه الانتخابات لأوّل مرّة. وفيما يفترض أن يحفّز النظام الانتخابي المحدّث الناخبين على المشاركة، وبكثافة، إلا أنّ العزوف عن الأمر يستحقّ دراسة وتعمّقاً. وإذا ما أتت الصناديق بمشهد جديد، فإنّه قائم على قاعدة ركيكة لا يجوز البناء عليها للخروج بخلاصات شافية.

الإسلاميّون هرعوا إلى قبيلة الحويطات…

على الرغم من الطابع الاحتفالي المفاجئ لـ “نصر” الإسلاميين، فإنّ من المستبعد أن يكون الأمر مفاجئاً ولم يكن محسوباً. لعب التيار الإسلامي بحنكة وبتمرّس ذوي الخبرة على الوتر العاطفي الجيّاش المرتبط مباشرة بمأساة فلسطين في قلب مجتمع الأردن. اختار التيار شعار المثلّث الذي تستخدمة “كتائب عز الدين القسّام”. وهرع قادة الحركة الإسلامية الأردنية وحزب “جبهة العمل الإسلامي” نحو مضارب قبيلة الحويطات في مدينة معان لتقديم الواجب بشهيدها ماهر الجازي. بدا أنّ في الأمر توظيفاً مدروساً يجرّ ماء كثيراً إلى طواحين ورشتهم في الطريق إلى البرلمان.

فاز التيار الإسلامي بـ 31 مقعداً من إجمالي عدد المقاعد التي تبلغ 138 مقعداً. بدا أنّ الحدث هو أهمّ نتائج الاقتراع. يجري كثيراً وضع المجهر على العدد “31” للفائزين الإسلاميين من دون كثير تأمّل للعدد “107” من الفائزين أيضاً. تابعت الانتخابات بعثة أوروبية من 120 مراقباً اعتبرتها “نزيهة” والمجلس الذي خرج منها “أكثر شمولية”.

يحتاج الأردن إلى تلك الانتخابات. ربّما تمّ الإعداد لها وهندستها. لا معلومات عن تقارب النتائج ممّا كان متوقّعاً حتى لا نقول تطابق حسابات الحقل مع البيدر

حكومة يرأسها إسلاميّ؟

يحتاج الأردن إلى تلك الانتخابات. ربّما تمّ الإعداد لها وهندستها. لا معلومات عن تقارب النتائج ممّا كان متوقّعاً حتى لا نقول تطابق حسابات الحقل مع البيدر. غير أنّ في الأردن “دولة عميقة” تقارب الحدث بحسابات أردنية بيتيّة تتقاطع مع معطيات إقليمية دولية تجري مداراتها بعناية. فإذا كان من أبجديات اليوم التالي للانتخابات حمل شخصية لرئاسة البرلمان، قالت بعض الأنباء إنّه قد يكون من التيار الإسلامي الفائز، فإنّ أمر الحكم في “اليوم الثالث” يتطلّب تشكيل حكومة جديدة تشبه مزاج الحدث الانتخابي ونتائجه، أي أنّها تأخذ بعين الاعتبار تنوّع المجتمع الأردني المندرج داخل تصنيف العددين (31 و107).

لطالما كانت تجربة إسلاميّي الأردن و”إخوانهم” مختلفة عن تجارب الإسلام السياسي، على الأقلّ بالنسخ التي عرفتها المنطقة في موسم “الربيع” العربي. لم يبتعد التيار الإسلامي عن مناخ الأردن وطبيعة تشكّله ومزاج القصر والملك. ولم يرهن هذا التيار مصيره بمصائر تيّارات أخرى خارج الحدود وعابرة له، من دون أن يمنع الأمر مشاعر تعاطف وودّ ووحدة حال. فالتيار الإسلامي المنتشي بفوزه، يُظهر تواضعاً ولا يريد “مغالبة”، حسب كلمات المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين الشيخ مراد عضايلة.

لهذا سينتهي سريعاً جدل ما بعد الانتخابات. فاللحظة الخطيرة في الشرق الأوسط وصخب ما قد تنتجه حرب غزّة عوامل داهمة ضاغطة في المنطقة، وفي الأردن خصوصاً، ولا تحتمل جدلاً بيزنطياً على بعد أمتار من “الوطن البديل” وورش التحوّلات الكبرى.

إقرأ أيضاً: الأردن: رسائل “الملك” إلى أميركا والعرب

في الهمس أنّ قرار موعد الانتخابات اتّخذ لاستباق نظيرتها في الولايات المتحدة في تشرين الثاني المقبل. وفي الهمس أنّ نتائجها تبعث برسائل يريدها الأردن، قصراً وشعباً ومؤسّسات، مفادها أنّ مزاج الأردنيين أخرج من الصناديق أقصى وجوه التشدّد للدفاع عن المملكة في مفترق وجودي تاريخي لافت.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…