قبل عام كامل غادرنا طلال سلمان، بعد سبع سنوات من توقف جريدته “السفير” عن الصدور. غادرنا قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة وجنوب لبنان، وتمرّ ذكراه اليوم ونحن على مشارف شهرها الحادي عشر.
رحيل مفكر ارتبط بقضايا الدول العربية
الغائب الأكبر أو الغائبان الكبيران عما يجري من أحداث في أيامنا هذه، هما الصحافي المخضرم طلال سلمان وجريدته “السفير”. غائبان حاضران هما في حمأة ما يجري، فـ”السفير” جريدة المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية، أولاً وأخيراً، وناشرها هو قبل كل شيء قلم المقاومات العربية والقضايا العربية والمتصدّين لإسرائيل من الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر انتهاءً بأمين عام الحزب حسن نصر الله، مروراً بياسر عرفات وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية “جمول”.
ذكرى وذاكرة
تصادف الذكرى السنوية الأولى لغياب طلال سلمان، هذا العام، مع ردّ المقاومة الإسلامية في لبنان، الذراع العسكرية لـ”الحزب”، على اغتيال قائدها العسكري الأبرز فؤاد شكر، في معقل الحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت. تمر ذكرى وفاته اليوم، في حمأة ما يجري، فنستشعر حجم الفراغ الذي خلّفه وراءه هو و”السفير”.
لطالما شكّلت “السفير” نافذةً يطلّ اللبنانيون والعرب من خلالها على حركات المقاومة وكيفية تفكيرها وخططها واستعداداتها لمواجهة إسرائيل. كان هذا زمن الإعلام الهادف والمعلومات الدقيقة، فكيف اليوم ونحن في زمن “الفايك نيوز” والمعلومات المضللة وهذا السيل الجارف من الأخبار التي لا يُعرف رثّها من ثمينها، والتي تهب علينا من كل حدب وصوب، وقد صار كل مواطن “صحافياً” لا تفارقه الكاميرا؟
لطالما أضاء طلال سلمان على الأحداث بلغته العربية التي لا تشوبها شائبة، وأسلوبه المميز ومقالاته التي كانت أشبه ببوصلة للقرّاء وحتى السياسيين ومحرّكي الرأي العام وصانعيه أيضاً.
كان طلال سلمان يكتب “على الطريق” وكل طريق بالنسبة له توصل إلى فلسطين. فلسطين المحررة من النهر إلى البحر
طلال سلمان و “الطريق”
كان طلال سلمان يكتب “على الطريق” وكل طريق بالنسبة له توصل إلى فلسطين. فلسطين المحررة من النهر إلى البحر. والحرّة التي لم يفلح نظام عربي في زجّها في سجونه، أو على جدول أعماله ومفاوضاته. المفارقة، أن الشهداء الذين يسقطون اليوم في غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان، شهداء “على طريق” القدس.
ربما لو كان طلال سلمان بيننا لنعاهم “على طريقته” واحتفل بهم أيّما احتفال، وقد صارت المعارك في الداخل الفلسطيني وعلى تخوم القدس، لا في أزقة بيروت وعمان وغيرهما من العواصم العربية.
شبه سيرة
لا تحيط سيرة بحياة صحافيّ عاديّ عاش الأخبار ونقلها وشارك في صناعتها، فكيف تحيط بصحافي بحجم طلال سلمان ومن قماشته.
وُلد طلال سلمان عام 1938، في بلدة شمسطار البقاعية. بدأ مسيرته المهنية في نهاية الخمسينيات مصحّحاً ومدققاً لغوياً في جريدة “النضال”، فمخبراً صحافياً في جريدة “الشرق”، ثم محرراً فسكرتيراً للتحرير في مجلة “الحوادث”، فمديراً للتحرير في مجلة “الأحد”.
في العام 1962، انتقل إلى الكويت حيث أصدر مجلة “دنيا العروبة”، ومنها عاد إلى بيروت ليعمل من جديد في “الصياد” و”الأحد”، قبل أن يشقّ طريق “السفير” في أواخر العام 1973، التي توقفت عن الصدور في 31 كانون الأول 2016.
اشتهر طلال سلمان بافتتاحيته التي تحمل اسم “على الطريق” والتي كتبها زهاء نصف قرن تقريباً وكان ينتظرها القرّاء بما تحمل من إضاءات على الأحداث ومواقف عرضت الجريدة للإقفال والمنع من الصدور أكثر من مرة، وصاحبها لأكثر من محاولة اغتيال أبرزها كانت عام 1984، ونجا منها بأعجوبة وخلّفت في وجهه وجسده ندوباً حملها معه إلى عليائه.
إلى افتتاحيته “على الطريق” اشتهر طلال سلمان بهوامشه التي كان يكتبها أسبوعياً ويطلّ من خلالها على عالم الثقافة ودنيا الأدب، وبـ”نسمة” الذي “لا تُعرف له مهنة سوى الحب”، واشتهر أيضاً بحواراته العميقة مع غالبية الرؤساء والمسؤولين العرب، والقامات الفكرية والثقافية العربية.
اشتهر طلال سلمان بافتتاحيته التي تحمل اسم “على الطريق” والتي كتبها زهاء نصف قرن تقريباً
كانت “السفير” نافذةً لبنانية على العرب وعالمهم ودولهم وقضاياهم، كما كانت نافذةً للعرب على لبنان “الوطن الصغير ذي الدور الكبير”، وشكلت طوال أربعة عقود ونيّف مساحة للتعبير لكبار الكتاب والمثقفين والمحللين العرب، أمثال: نهاد المشنوق، ياسين الحافظ، عصمت سيف الدولة، سعد الله ونوس، جورج قرم، مصطفى الحسيني، إبراهيم عامر، بلال الحسن، حازم صاغية، حسين العودات، ميشال كيلو، عبد الرحمن منيف، رفعت السعيد، إميل بيطار، طارق البشري، سليم الحص، فهمي هويدي، صلاح الدين حافظ، كلوفيس مقصود، هاني فحص، حسين عبد الرازق، عباس بيضون، وضاح شرارة وغيرهم. وكان رسام الكاريكاتير الشهيد ناجي العلي من علاماتها الفارقة لفترة طويلة.
“على الطريق”؟
في حمأة ما يجري، السؤال الأبرز الذي يتبادر إلى الأذهان اليوم هو: لو كان طلال سلمان حيّاً يُرزَق بيننا اليوم، و”السفير” لم تتوقف عن الصدور، ولا تزال على جري عادتها بين أيدي القرّاء وفي المكتبات وعلى الأرصفة، ما كان ليكتب لنا؟ هل كان سيقول إننا فعلاً “على الطريق”؟
إقرأ أيضاً: “أطلال رأس بيروت” لمحمّد الحجيري… رواية المقهى الزائل
ربما، لكنه حتماً كان سيكتب داعماً المقاومين من غزّة إلى لبنان، ومن المؤكد أنه كان سيرفع صوت الدم الذي لا ينفكّ يسيل منذ 11 شهراً من غزّة وجنوب لبنان، عالياً.
حتماً كان سيكتب طلال سلمان بأصوات الذين تقتلهم إسرائيل يومياً لكيلا تصل صرخاتهم إلينا.
لمتابعة الكاتب على X: