صدرت عن منشورات رياض الريّس رواية “أطلال رأس بيروت” للكاتب محمد الحجيري. يمكن وصفها بأنّها “رواية الأمكنة المتصدّعة والزائلة في بيروت”. وهي تضمّنت الحانة الصغيرة التي تشبه المعبد، والمقهى الذي يشبه مصطبة الضيعة، والمتشرّد الذي كان حضوره نقداً حادّاً للمكان الأكثر مدينية.
هي رواية الجسد الأنثوي وأمواته. رواية الخيبات والخسارات والمرارات والتحوّلات القاتلة والغيرة المرَضية والشكّ والحبّ الفاشل. وهي رواية الشخصيّات الهشّة الباحثة عن نفسها ووهمها في ليل المدينة ونهارها. رواية الشابّ الذي حاول أن يقدّم نفسه للمدينة من خلال مقهى الرصيف، والفتاة التي كان صعباً أن تكون امرأة واحدة.
قبل أنْ يداوم سمير في الحانة الصغيرة مساءً، يزور مقهى الرصيف عند الظهيرة. لا يتذكّر متى انتبه أنّه بدأ يجلسُ في ذلك المقهى في رأس بيروت، أو صار يواظب على الجلوس فيه، كأنّ المكان ذاته شرفة بيته وعنوانه البريديّ.
كأنّ ذلك أصبح فجأة من دون انتباه أو دراية ولا تساعده مخيّلته على أن يتذكّر جيّداً كم جلس في ذلك المقهى. فمن قبل كان يجيء إلى الشارع، يشتري الكتب أو يتسكّع عابراً على الرصيف، ناظراً إلى روّاده ربّما يكون يعرف الكثير منهم.
لكنّه يتجنّب أنْ يلتقي نظره بنظرهم. كان يفضّل أن يمشي مراراً وتكراراً والوقوف عند بسطة الكتب. عند زاوية من زوايا كنيسة القدّيس فرنسيس، يقف عند بسطة الكتب، متأمّلاً العناوين والأسماء، أو محدّقاً في ملصقات أفلام السينما الكبيرة المرسومة رسماً. لم يكن على اندماج مع الأمكنة المدينية، مع أنّه كان هارباً من العوالم الريفية وأصفادها.
هي رواية الجسد الأنثوي وأمواته. رواية الخيبات والخسارات والمرارات والتحوّلات القاتلة والغيرة المرَضية والشكّ والحبّ الفاشل
جهلُ سمير… والنّعاس والنّميمة
لا يعرف سمير لماذا اختاروا اسماً روسيّاً لذلك المقهى. ولا يتذكّر متى أصبح متعلّقاً به وصار جزءاً أساسيّاً من دفتر يوميّاته وصمته الحزين وبؤسه السعيد. يغيب لساعات: يمشي، يصوّر، يقرأ، يتناول السندويشات والمعجّنات، يذهب إلى العمل، ثمّ يجد نفسه في المقهى.
اعتاد أنْ يجلس على الكنبة الجلدية القريبة من الباب المواجه تماماً للرصيف والشارع الرئيس ومحلّ الثياب والمسرح العريق المحترق والمقهى الآخر المقفل، والدرج الذي يجلس عليه بعض العابرين. يتأمّل نُعاس الجالسين ويسمع نتفاً من أحاديثهم ونمائمهم وأحقادهم.
روّاد المقهى في أوقات مختلفة ينظّمون جلساتهم بشكل عفوي كما لو أنّهم يجلسون على شرفة بيتهم، كلّ فريق يختار الركن الذي يناسبه أو يلبّي مزاجه وحتى تنفيذ أعماله.
يراقب سمير النباتات التي لا يعرف “أساميها” في الأحواض القليلة. يراقب حياة العابرين المحتشدين على الأرصفة، كأنّه في عزلة أو مختفٍ خلف ضباب اخترعه لنفسه. يحسب أنّه في جلساته تلك كأنّه يجلس في برج مراقبة، في ذلك التقاطع المدينيّ.
كلّ من يمرّ لا بدّ أن يراه مأخوذاً ومنسجماً بحركة العابرين يمرّون على الرصيف خلف الزجاج السميك في مشهد مسرحي وسينمائي وإيمائي، ناظراً إليهم. وإذا سأله أحدهم: هل تتابع السينما والمسرح؟ يقول لهم: “من هنا، من على الكنبة الجلدية أشاهد أجمل سينما متحرّكة، متعدّدة السيناريوهات”.
كان يحبُّ أن يجلس وحده في المقهى، وتحديداً في أوقات ما بعد الظهر. يختار الزاوية التي تطلّ على الرصيف الطويل. يرى إلى حركة المارّة والعابرين. يقرأ. ويبدو كمراقب متخفٍّ في مكان معلن. لم يطُل الزمن حتى بات يعرفه كلّ روّاد المقهى: بالاسم أو شخصيّاً كأنّه في بلدة نائية وليس في مدينة مزدحمة. كأنّه في مصطبة الضيعة وليس في شارع يشبه الشوارع الباريسية.
محمد الحجيري روائي وكاتب. له أعمال روائية وبحثية عديدة
مع ذلك، كان وحده، يعيش وحده، لا أحد من أهله كان يعلم بالمكان الذي كان يجلس فيه كلّ يوم، ولا يعرفون كيف يعيش وماذا يشتغل، وحين يلتقي بشخص من قريته يشيح النظر عنه، يحاول قدر الإمكان أن يتخفّى.
معارف الرّجل
في المقهى يتّضح العالم أمامه، وتظهر تناقضاته كأمر عابر. يسمع ويغني الحكاية، بين السماع والمشهد يضيع الوقت. وحدهم الذين يعرفهم منذ زمن غابر لا بدّ أن يمرّوا رافعين يدهم للسلام. “كيفك؟ كيف صحّتك؟”. يتابعون سيرهم، وإذا ما كان الودّ قويّاً، يدخلون المقهى يجلسون قليلاً قبل أن يذهبوا في طريقهم.
كان سمير غريباً ويرى شاعراً غريباً يجلس إلى طاولته من خلال الحاجز الزجاجي. ذلك الشاعر داوود الأبيض يعرف الجميع دوامه. يأتي صباحاً قبل قدوم الروّاد، ويغادر حين يتكاثرون. وفي المساء يأتي بعد التاسعة. حين يجلس مساءً في المقهى المكتظّ، يشعر بوحدته وعزلته حتى وإن كان المقهى مكتظّاً.
الشاعر بشعره الأبيض وسيجاره الصغير كان وفيّاً لمكانه ومتشبّثاً به. وهو على عكس كثيرين يختار مكانه ويجلس فيه والآخرون يأتون إليه. لم يكن يذهب إلى طاولات غيره حتى وإن كان بينه وبينهم صداقة: يأتي في ساعة محدّدة ويذهب في ساعة محدّدة.
اعتاده الناس في السلم وفي الحرب. يقرأ كتباً ومجلّات بالفرنسية والعربية. يحمل قلمه ويدوّن خيالاته ومفرداته على بياض الصفحات، ويحتسي قهوته المرّة، ومرّات يتأمّل العابرين وتلامس وجهه نسمات قادمة من جهة البحر.
العبثيّة في عدم الدّراية
لا يدري سمير هل كان الجلوس في المقهى لحظة ليقدّم نفسه للمدينة، أم ليهرب من شعاب الملل اليوميّ. كثر جلسوا في ذلك المكان قبل أن يعودوا إلى قبائلهم وطوائفهم مثل أجلاف. كان مقهى الحياة ومقهى الموت، مقهى المدينة ومقهى القرية، مقهى الشبّان ومقهى العجائز، مقهى البوهيمية ومقهى النخبة، مقهى الأمن ومقهى السياسة، مقهى الشعر ومقهى التفاهة، مقهى الاعتراف ومقهى الخيانة، مقهى الرثاثة ومقهى الاستعراض.
رواية “أطلال رأس بيروت” للكاتب محمد الحجيري. يمكن وصفها بأنّها “رواية الأمكنة المتصدّعة والزائلة في بيروت”
كان الشارع سجن سمير الاختياري. من حيث يجلس سمير على الكنبة البرتقالية ينتبه لتنقّلات ذلك المتشرّد على “بلِس”، ومواظبته على البقاء في الشارع العريق. مرّات يقف على زاوية المقهى بين أحواض الزرّيعة أو يتمشّى كأنّه ينتظر شيئاً أو يفكّر في أمور، وربّما لا يفكّر في شيء.
كان هشّاً ونحيفاً ونحيلاً. لم يكن رافع الرأس. دائماً يمشي ناظراً إلى الأرض، ربّما العدم أو العبث، يحادث نفسه، يرسم إشارات بأصابعه. ومرّات يصاب بهلع ما، يركض بين السيّارات وعلى الأرصفة، وحين يركض يدرك الجالسون في المقهى، يدركون أنّه لمح دوريّة درك قادمة. من دون أنْ تقصده أو تشير إليه، يتوهّم أنّها تلاحقه ويصاب بالهلع ويختفي من المكان.
كانت لحيته تغطّي آلام الزمن على وجهه. رهافة رأس بيروت لم تنقذ وجهه من الثقوب، وهواء البحر لم يكن سريراً له، وتلك الثورات التي انطلقت من مقاهي “بلِس” لم تصنع أمله. كان يهيم على وجهه كالموت. يمشي على الرصيف وأحياناً يقف مسنوداً كأنّه معلّق على صليب الحياة، وصليب المجتمع، وصليب التيه.
سيرة الرّوائيّ محمّد الحجيري
يذكر أنّ محمد الحجيري روائي وكاتب. له أعمال روائية وبحثية عديدة. منها رواية “طيور الرغبة”، وكتاب “العشق السرّيّ.. المثقّفون والرقص الشرقي” و”بوب آرت أمّ كلثوم.. الحبّ، الصوت، السلطة”. وهو يعمل في الصحافة منذ سنوات، وكتب في كبريات الصحف والمجلّات والمواقع العربية كـ “النهار” و”السفير” و”الجريدة” و”المدن” و”بدايات” و”نزوة” و”الفيصل”.
لمتابعة الكاتب على X: