المصارف والإقراض.. أحلام بعيدة المنال

مدة القراءة 9 د

التعميم الأساسي لمصرف لبنان الذي يحمل الرقم 150، والصادر في 9 نيسان 2020، كان واضحاً جداً لجهة الحسابات الجديدة (الفريش) المكوّنة بالعملة الأجنبية: يجب أن تكون متوافرة غبّ الطلب لصاحب الحقّ الاقتصادي للحساب (المودع)، ويتوجّب على المصارف وضع مؤونة تساوي 100% من أرصدة هذه الحسابات (أي الحسابات بالدولار الفريش) لدى المصارف المراسلة. والمهمّ هنا هو أنّه ممنوع على المصارف التجارية احتساب أيّ جزء من هذه السيولة لمصلحتها. هذا يعني إجرائياً الحظر على المصارف استعمال هذه السيولة لتسديد الأموال المحجوزة للمودعين (أي الحسابات المعنونة بالدولار المحلّي – اللولار) أو لتوظيفها لمصلحتها سعياً وراء تحقيق أرباح – تسليف، شراء أدوات مالية وغيرها.

 

يقدّر اليوم إجمالي أرصدة الحسابات الجديدة (الفريش) بـ 3 مليار دولار أميركي. هذا المبلغ لا يعتبر سيولة تحتسب لمصلحة القطاع المصرفي، وغير قابل للتوظيف من قبل المصارف.

في الواقع، التعميم الأساسي 150 نسف قواعد الاشتباك بين المصارف والمودعين ومصرف لبنان:

– كلّ الودائع أصبحت غبّ الطلب (Demand deposits)، ولم يعد هناك حسابات لأجل (Time Deposits) مكوّنة بالدولار الفريش.

– هذه الحسابات معفاة ومحرّرة من الاحتياطي الإلزامي (required reserves)، الذي كان سابقاً يبلغ حدّ 15%.

– يحظر على المصرف احتساب أرصدة هذه الحسابات كجزء من سيولته الخاصة.

هذا يُترجم على الشكل التالي: السيولة التي قد أو يجب أن تتوافر للإقراض أو لتسديد جزء أو كامل الودائع المحتجزة يجب أن تأتي من سيولة تمّت إعادة تكوينها من أرباح المصارف (عمولات، وتوظيفات لدى مصارف غير مقيمة) أو/و ضخّ سيولة جديدة من قبل أصحاب رأس المال في المصرف.

أزمة المصارف معقدة

قدرة المصارف اللبنانية على العودة إلى ممارسة دورها في الاقتصاد الوطني لم ينتهِ عند هذه الحدود التقنية. الأزمة المصرفية في لبنان معقّدة ومتشابكة مع الأزمة الاقتصادية الأوسع التي يمرّ بها الوطن، وهي تطرح تحدّيات جمّة أمام إمكانية عودة المصارف للإقراض بفعّالية. هناك عدّة عوامل تؤثّر على هذه الإمكانية:

 هناك تحدٍّ أخلاقي في كيفية التعامل مع أموال المودعين وإعادة بناء الثقة دون التضحية بحقوقهم

1- الثقة بالنظام المصرفي: أزمة الثقة هي ربّما العقبة الكبرى. فبعد تجميد الودائع وفرض قيود على السحب، تضرّرت ثقة المودعين والمستثمرين بشكل كبير. عودة الإقراض ستتطلّب جهوداً كبيرة لإعادة بناء هذه الثقة.

2- السيولة المتاحة: هناك سيولة متوافرة لدى المصارف من خلال توظيفاتها في الخارج وإيرادات الفوائد العالية التي تجنيها. ومع ذلك، يبقى السؤال المهمّ: هل تُستخدم هذه السيولة لإعادة الودائع أو للإقراض؟ وكيف ستُوزّع الأولويات بين حاجات المودعين ورغبات المصارف في تحقيق الأرباح؟

ما هي كيفية استخدام السيولة المتاحة؟

يكمن تعقيد مسألة السيولة المتاحة لدى المصارف اللبنانية في كيفية استخدامها وتوزيع الأولويات بين المودعين والمصارف. يثير هذا الأمر نقاشاً واسعاً حول الأخلاقيات والاستدامة المالية للقطاع المصرفي في لبنان، خاصة بعد الأزمة الحادّة التي أدّت إلى تجميد الودائع وفرض قيود صارمة على السحب. لفهم هذا التحدّي بشكل أعمق، يمكن تقسيم النقاش إلى مكوّنات أساسية:

مصادر السيولة:

– توظيفات في الخارج: عدد من المصارف اللبنانية قد وظّفت جزءاً كبيراً من الأموال في أسواق أجنبية، وهذا يشمل فتح حسابات بعملات صعبة في مصارف مراسلة، واستثمارات قد تحقّق عائدات مرتفعة نظراً للفوائد العليا في الأسواق العالمية.

– الفوائد على الأموال المحوّلة: الأموال التي تمّ تحويلها إلى الخارج تحقّق فوائد ساهمت، بشكل ملموس، في زيادة السيولة المتاحة للمصارف.

استخدام السيولة:

– إعادة الودائع: أصحاب الودائع يطالبون بحقوقهم في استرداد أموالهم التي جمّدتها المصارف. استخدام السيولة لإعادة هذه الودائع قد يساعد في إعادة بناء الثقة بالقطاع المصرفي.

– الإقراض: من ناحية أخرى، المصارف قد تفضّل استخدام السيولة لتجديد أنشطة الإقراض التي تعدّ مصدراً رئيسياً للأرباح. الإقراض يمكن أن يدعم الاقتصاد المحلّي، لكن يجب أن يتمّ بشروط تضمن الاستدامة والعدالة.

يقدّر اليوم إجمالي أرصدة الحسابات الجديدة (الفريش) بـ 3 مليار دولار أميركي. هذا المبلغ لا يعتبر سيولة تحتسب لمصلحة القطاع المصرفي

توزيع الأولويّات:

– مصالح المودعين: يجب على المصارف مراعاة حقوق المودعين، الذين تأثّروا بشكل كبير بتجميد الودائع، وانتظروا طويلاً.

– رغبات المصارف: المصارف تسعى إلى تحقيق الربح وضمان استمراريّتها، وهو ما يدفعها للتفكير في استئناف الإقراض كمصدر أساسي للإيرادات.

التّحدّيات الأخلاقيّة والقانونيّة:

– الأخلاقية: هناك تحدٍّ أخلاقي في كيفية التعامل مع أموال المودعين وإعادة بناء الثقة دون التضحية بحقوقهم.

– القانونية: التحدّيات القانونية تشمل الإجراءات والتعاميم التي يصدرها مصرف لبنان والتي يجب أن توفّر حماية للمودعين والمصارف وتحافظ على استقرار النظام المالي.

القرار حول كيفية استخدام السيولة المتاحة للمصارف يجب أن يأخذ بعين الاعتبار كلّ هذه العوامل ويجب أن يتمّ تحت إشراف وتنظيم مشدّد لضمان أن يكون عادلاً ومستداماً، مع الأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الطويلة الأمد للاقتصاد اللبناني وشعبه.

3- التشريعات والتنظيم: الدور الذي يلعبه مصرف لبنان والسلطة في تنظيم وإصلاح القطاع المصرفي أساسيّ. التعاميم والقوانين التي تحكم عمليات السحب والإقراض وتعديلها قد تفتح الباب لإعادة تنشيط الإقراض، لكن يجب أن يتمّ ذلك في إطار يحمي حقوق المودعين ويضمن الاستقرار المالي. في حال توافرت السيولة للمصارف والبيئة الاقتصادية الجيّدة، لم تكن هناك حاجة إلى أكثر من تعديل بسيط في عقد التسليف لضمان حقّ المصرف: فرض تسديد القرض بالدولار الفريش حصراً من خلال دفعات يتمّ توطينها (أي إيداعات) في حساب يُفتح تحت أحكام أحد التعاميم الأساسية الصادرة عن مصرف لبنان، 150 أو 165.

المصارف

هذه الوسيلة تفرض التسديد بالدولار الفريش، إضافة إلى الضمانات التي يطلبها المصرف. توفّر هذه التعديلات حصانة قانونية كافية للحفاظ على حقوق المصرف. والكلام عن أنّ تعديل القوانين ذات الصلة ممرّ إلزامي لعودة المصارف للإقراض كلام غير دقيق! وفي المقلب الآخر يتوجّب على المصرفيين دائماً عدم غضّ النظر عن أنّ كلّ القوانين والتشريعات في لبنان عجزت عن حماية الودائع عندما وقعت الواقعة، فلماذا محاولة التسويق إذا كان من غير الممكن العودة إلى الإقراض إن لم يصَر إلى:

في الواقع، التعميم الأساسي 150 نسف قواعد الاشتباك بين المصارف والمودعين ومصرف لبنان

1- تحسين الوضع الاقتصادي الكلّي: الاقتصاد اللبناني يواجه تحدّيات كبرى، وهي تضخّم مرتفع، انخفاض قيمة العملة، وشبح التوقّف عن خدمة الدين العام. تؤثّر هذه العوامل بشكل مباشر على القدرة الشرائية والقوّة الاقتصادية، وبالتالي على قدرة المصارف على الإقراض.

2- تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي: الاستقرار السياسي يؤثّر على الاقتصاد بشكل عام وعلى النظام المصرفي بشكل خاص. الأوضاع السياسية المتقلّبة قد تزيد من صعوبة الوضع الاقتصادي وتحدّ من إمكانيات الإقراض. يلعب الاستقرار السياسي والاجتماعي دوراً حاسماً في تحديد البيئة الاقتصادية والمصرفية في أيّ دولة، ولبنان يعيش مثالاً بارزاً على كيفية تأثير الأوضاع السياسية المتقلّبة سلباً في الاقتصاد العام والقطاع المصرفي. هناك عدّة جوانب توضح تأثير الاستقرار السياسي والاجتماعي على النظام المصرفي:

– الثقة الاقتصادية: الاستقرار السياسي يساهم في تعزيز الثقة الاقتصادية. في البيئات السياسية المستقرّة، تكون السياسات الاقتصادية أكثر تنبّؤاً واستمرارية، وهو ما يؤدّي إلى بيئة أكثر جاذبية للاستثمارات المحلّية والأجنبية. في المقابل، الأوضاع السياسية المتقلّبة تعني سياسات متغيّرة وقرارات مفاجئة قد تثير القلق بين المستثمرين والمودعين، وهو ما يؤدّي إلى تقلّبات في السوق وانسحاب للرساميل.

– تنفيذ السياسات والإصلاحات: الحكومات في الدول ذات الاستقرار السياسي تكون أكثر قدرة على تنفيذ السياسات والإصلاحات الاقتصادية والمالية بفعّالية. تستطيع هذه الحكومات وضع وتنفيذ خطط طويلة الأجل تشمل تحسين بنية النظام المالي والمصرفي. أمّا في البيئات المضطربة كما الحال في لبنان، فإنّ الفترات القصيرة بين الانتخابات أو الاضطرابات السياسية تجعل من الصعب تنفيذ أو حتى البدء بإصلاحات جوهرية.

يكمن تعقيد مسألة السيولة المتاحة لدى المصارف اللبنانية في كيفية استخدامها وتوزيع الأولويات بين المودعين والمصارف

– التأثير على العملة والسياسة النقدية: الأوضاع السياسية المتقلّبة قد تؤدّي إلى ضغوط على العملة المحلّية، وهو ما يضطرّ البنك المركزي إلى اتّخاذ تدابير استثنائية قد تؤثّر على القطاع المصرفي. على سبيل المثال، القيود على السحوبات أو تجميد الودائع هي إجراءات غالباً ما تُتّخذ في أوقات الأزمات السياسية والاقتصادية، وتؤثّر مباشرة على قدرة المصارف على الإقراض.

– جذب الاستثمارات الأجنبية والحفاظ عليها: الاستقرار السياسي والاجتماعي يجذب الاستثمارات الأجنبية، التي تعتبر عنصراً حيوياً للسيولة في النظام المصرفي. الاستثمارات الأجنبية تعزّز من قدرة المصارف على الإقراض بشروط مؤاتية.

إقرأ أيضاً: عودة التسليفات المصرفيّة.. حكاية البيضة والدّجاجة

في حالة لبنان، الحلول الجذرية لتحسين القطاع المصرفي وإعادة الإقراض تتطلّب استقراراً سياسياً واجتماعياً يمكن من خلاله تنفيذ إصلاحات مالية واقتصادية ضرورية لاستعادة الثقة بالقطاع المصرفي والاقتصاد بشكل عام. العودة إلى الإقراض تتطلّب إذاً تناول هذه العوامل بشكل شامل ومتوازن. يتطلّب الأمر إصلاحات جذرية لا تقتصر على القطاع المصرفي فحسب، بل تشمل الاقتصاد بشكل عام والنظام السياسي. بدون هذه الإصلاحات، قد تظلّ المصارف قادرة على الإقراض من الناحية النظرية، لكنّها ستواجه صعوبات في العمل بفعّالية في بيئة اقتصادية واجتماعية غير مستقرّة.

 

* باحث في الشؤون الاقتصادية والنقدية.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…